صفحة جزء
ومما يبين هذا : أن التخفيف أمر نسبي إضافي ليس له حد في اللغة ولا في العرف ؛ إذ قد يستطيل هؤلاء ما يستخفه هؤلاء ، ويستخف هؤلاء ما يستطيله هؤلاء ، فهو أمر يختلف باختلاف عادات الناس ( ومقادير العبادات ، ولا في كل من العبادات التي ليست شرعية ) .

فعلم أن الواجب على المسلم : أن يرجع في مقدار التخفيف والتطويل إلى السنة ، وبهذا يتبين أن أمره صلى الله عليه وسلم بالتخفيف لا ينافي أمره بالتطويل أيضا في حديث عمار الذي في الصحيح لما قال : " إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه ، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة " ، وهناك أمرهم بالتخفيف ، ولا منافاة بينهما ، فإن الإطالة هنا بالنسبة إلى الخطبة والتخفيف هناك بالنسبة إلى ما فعل بعض الأئمة في زمانه من قراءة البقرة في العشاء الآخرة ؛ ولهذا قال : " فإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء " .

[ ص: 112 ] فبين أن المنفرد ليس لطول صلاته حد تكون به الصلاة خفيفة ، بخلاف الإمام لأجل مراعاة المأمومين ؛ فإن خلفه السقيم والكبير وذا الحاجة ؛ ولهذا مضت السنة بتخفيفها عن الإطالة إذا عرض للمأمومين أو بعضهم عارض ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " إني لأدخل الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأخفف لما أعلم من وجد أمه " وبذلك علل النبي صلى الله عليه وسلم فيما تقدم من حديث [ ابن مسعود ] .

وكذلك في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة ، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء " ، وفي رواية : " فإن فيهم السقيم والشيخ الكبير وذا الحاجة " .

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصرها أحيانا عما كان يفعل غالبا ، كما روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن حريث رضي الله عنه قال : " كأني أسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الغداة ( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) " ، وروي أنه قرأ في صلاة الفجر في بعض أسفاره بسورة الزلزلة ، وكان يطولها أحيانا حتى ثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما : " أن أم الفضل بنت الحارث سمعته وهو [ ص: 113 ] يقرأ والمرسلات عرفا فقالت : يا بني لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة ؛ إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب " .

وفي الصحيحين عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أنه قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالطور في المغرب " ، وفي البخاري والسنن عن مروان بن الحكم قال : قال لي زيد بن ثابت : " ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بطولى الطوليين ؟ قال : قلت : ما طولى الطوليين ؟ قال : الأعراف " .

فهذه الأحاديث من أصح الأحاديث ، وقد ثبت فيها أنه كان يقرأ في المغرب تارة بالأعراف وتارة بالطور وتارة بالمرسلات ، مع اتفاق الفقهاء على أن القراءة في المغرب سنتها أن تكون أقصر من القراءة في الفجر ، فكيف تكون القراءة في الفجر وغيرها ؟ .

ومن هذا الباب ما روى وكيع عن منصور ، عن إبراهيم النخعي قال : كان أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود يطيل القيام بقدر الركوع ، فكانوا يعيبون ذلك عليه ، قال أبو محمد بن حزم : العيب على من عاب عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعول على من لا حجة فيه ، قلت : قد تقدم فعل أبي عبيدة الذي في الصحيح وموافقته لفعل [ ص: 114 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهؤلاء الذين عابوا عليه كانوا من أهل الكوفة الذين في زمن الحجاج وفتنة ابن الأشعث لم يكونوا من الصحابة ولا عرف أنهم من أعيان التابعين ، وإن كان قد يكون فيهم من أدرك ابن مسعود ؛ فإن ابن مسعود لم يكن هو الإمام الراتب في زمنه ، بل الإمام الراتب كان غيره ، وابن أبي مسعود أقرب إلى متابعة أبيه من هؤلاء المجهولين .

فهؤلاء الذين أنكروا على أبي عبيدة إنما أنكروا عليه لمخالفته العادة التي اعتادوها ، وإن خالفت السنة النبوية ، ولكن ليس هذا الإنكار من الفقهاء .

يبين ذلك أن أجل فقيه أخذ عنه إبراهيم النخعي هو علقمة ، وتوفي قبل فتنة ابن الأشعث التي صلى فيها أبو عبيدة بن عبد الله ، فإن علقمة توفي سنة إحدى أو اثنتين وستين في أوائل إمارة يزيد ، وفتنة ابن الأشعث كانت في إمارة عبد الملك ، وكذلك مسروق ، قيل : إنه توفي قبل السبعين أيضا ، وقيل فيهما كما قيل في مسروق ونحوه .

فتبين أن أكابر الفقهاء من أصحاب عبد الله بن مسعود لم يكونوا هم الذين أنكروا ذلك ، مع أن من الناس [ إذا سمع هذا الإطلاق صرفه إلى إبراهيم النخعي ، وقد ( علمه ) أن المشهور أن علقمة يظن أن إبراهيم وأمثاله أنكروا ذلك ] وهم رأوا [ ص: 115 ] ذلك وهم أخذوا العلم عن عبد الله ، ونحوه ، فقد تبين أن الأمر ليس كذلك .

آخر ما وجد في الأصل ، والحمد لله رب العالمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية