صفحة جزء
وأصل هذا : أن الله سبحانه إنما حرم علينا المحرمات من الأعيان : كالدم والميتة ولحم الخنزير ، أو من التصرفات : كالميسر والربا وما يدخل فيهما بنوع من الغرر وغيره ، لما في ذلك من المفاسد التي نبه الله عليها ورسوله بقوله سبحانه ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ) [المائدة ] .

فأخبر سبحانه : أن الميسر يوقع العداوة والبغضاء ، سواء كان ميسرا بالمال أو باللعب ، فإن المغالبة بلا فائدة وأخذ المال بلا حق يوقع في النفوس ذلك ، وكذلك روى فقيه المدينة من الصحابة زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال : كان الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبايعون الثمار ، فإذا [جذ] الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع إنه أصاب الثمر الدمان ، أصابه مراض ، أصابه قشام : عاهات يحتجون بها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - لما كثرت عنده الخصومة في ذلك - : فأما لا ، فلا تبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر ، كالمشورة لهم يشير بها ، لكثرة خصومتهم واختلافهم وذكر خارجة بن زيد : " أن زيدا لم يكن يبيع ثمار أرضه حتى تطلع الثريا فيتبين الأحمر من الأصفر " رواه البخاري تعليقا ، وأبو داود إلى قوله : " خصومتهم " ، وروى أحمد في المسند عنه قال : قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها ، فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خصومة فقال : ما هذا ؟ فقيل له : إن هؤلاء ابتاعوا الثمار يقولون : أصابنا الدمان والقشام ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فلا تبايعوها حتى يبدو صلاحها .

[ ص: 190 ] فقد أخبر أن سبب نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك : ما أفضت إليه من الخصام ، وهكذا بيوع الغرر ، وقد ثبت نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها في الصحيحين ، من حديث ابن عمر ، وابن عباس ، وجابر ، وأنس . وفي مسلم من حديث أبي هريرة ، وفي حديث أنس تعليله ، ففي الصحيحين عن أنس : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى تزهى ، قيل : وما تزهى ؟ قال : حتى تحمر أو تصفر ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أرأيت إذا منع الله الثمرة ، بم يأخذ أحدكم مال أخيه وفي رواية : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمر حتى يزهو ، فقلنا لأنس : ما زهوها ؟ قال : تحمر وتصفر ، أرأيت إن منع الله الثمرة ، بم تستحل مال أخيك ، قال أبو مسعود الدمشقي : جعل مالك والداروردي قول أنس : أرأيت إن منع الله الثمرة من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أدرجاه فيه ، ويرون أنه غلط .

فهذا التعليل - سواء كان من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من كلام أنس - فيه بيان أن في ذلك أكلا للمال بالباطل ، حيث أخذه في عقد معاوضة بلا عوض مضمون .

وإذا كانت مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء ، وأكل الأموال بالباطل ، فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها ، كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل ، لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض ، وإن لم يجز غيره بعوض ، وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة ، فهو باطل ، وإن كان فيه منفعة - وهو ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : كل لهو [ ص: 191 ] يلهو به الرجل فهو باطل ، إلا رميه بقوسه ، وتأديبه فرسه ، وملاعبته امرأته ، فإنهن من الحق - صار هذا اللهو حقا .

ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض ، أو أكل مال بالباطل ؛ لأن الغرر فيها يسير كما تقدم ، والحاجة إليها ماسة ، والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر ، والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضها حاجة راجحة أبيح المحرم ، فكيف إذا كانت المفسدة منتفية ؟ ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح ، أباح الشرع ذلك ، قاله جمهور العلماء كما سنقرر قاعدته - إن شاء الله تعالى - ، ولهذا كان مذهب أهل المدينة وفقهاء الحديث : أنها إذا تلفت بعد البيع بجائحة هلكت من ضمان البائع ، كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة ، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا ، بم تأخذ مال أخيك بغير حق ؟ وفي رواية لمسلم عنه : أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوضع الجوائح ، والشافعي - رضي الله عنه - لما لم يبلغه هذا الحديث - وإنما بلغه حديث لسفيان بن عيينة اضطرب فيه - أخذ في ذلك بقول الكوفيين : إنها تكون من ضمان المشتري ؛ لأنه مبيع قد تلف بعد القبض ؛ لأن التخلية بين المشتري وبينه قبض . وهذا على أصل الكوفيين أمشى ؛ [ ص: 192 ] لأن المشتري لم يملك إبقاءه على الشجر ، وإنما موجب العقد عندهم : القبض الناجز بكل حال وهو طرد لقياس سنذكر أصله وضعفه ، مع أن مصلحة بني آدم لا تقوم على ذلك ، ومع أني لا أعلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة صريحة بأن المبيع التالف قبل التمكن من القبض يكون من مال البائع ، وينفسخ العقد بتلفه إلا حديث الجوائح هذا ، ولو لم يكن فيه سنة لكان الاعتبار [الصريح] يوافقه وهو ما نبه عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : بم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ؟ فإن المشتري للثمرة إنما يتمكن من جذاذها عند كمالها ونضجها ، لا عند العقد ، كما أن المستأجر إنما يتمكن من استيفاء المنفعة شيئا فشيئا ، فتلف الثمرة قبل التمكن [من الجذاذ كتلف العين المؤجرة قبل التمكن] من استيفاء المنفعة ، وفي الإجارة يتلف من ضمان المؤجر بالاتفاق ، فكذلك في البيع .

وأبو حنيفة يفرق بينهما بأن المستأجر لم يملك المنفعة ، وأن المشتري لم يملك الإبقاء ، وهذا الفرق لا يقول به الشافعي ، وسنذكر أصله .

فلما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن بيعها حتى يبدو صلاحها ، وفي لفظ مسلم عن ابن عمر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا تتبايعوا الثمر حتى يبدو صلاحه وتذهب عنه الآفة ، وفي لفظ لمسلم عنه : نهى عن بيع النخل حتى تزهى ، وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة ، نهى البائع والمشتري وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع النخل حتى يحرز من كل عارض .

[ ص: 193 ] فمعلوم أن العلة ليست كونه كان معدوما ، فإنه بعد بدو صلاحه وأمنه العاهة يزيد أجزاء لم تكن موجودة وقت العقد . وليس المقصود الأمن من العاهات النادرة ، فإن هذا لا سبيل إليه ، إذ قد يصيبها ما ذكره الله عن أهل الجنة الذين ( أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون ) [ القلم 17 ، 18 ] ، وما ذكره في سورة يونس في قوله : ( حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ) [ يونس ] ، وإنما المقصود ذهاب الآفة التي يتكرر وجودها ، وهذا إنما تصيب الزرع قبل اشتداد الحب ، وقبل ظهور النضج في الثمر ، إذ العاهة بعد ذلك نادرة بالنسبة إلى ما قبله ; ولأنه لو منع بيعه بعد هذه الغاية لم يكن له وقت يجوز بيعه إلى حين كمال الصلاح . وبيع الثمر على الشجر بعد كمال صلاحه متعذر ; لأنه لا يكمل جملة واحدة ، وإيجاب قطعه على مالكه فيه ضرر مرب على ضرر الغرر .

فتبين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم مصلحة جواز البيع الذي يحتاج إليه على مفسدة الغرر اليسير ، كما تقتضيه أصول الحكمة التي بعث بها - صلى الله عليه وسلم - وعلمها أمته .

ومن طرد القياس الذي انعقد في نفسه ، غير ناظر إلى ما يعارض علته من المانع الراجح : أفسد كثيرا من أمر الدين ، وضاق عليه عقله ودينه .

التالي السابق


الخدمات العلمية