صفحة جزء
فصل .

ومما تمس الحاجة إليه من فروع هذه القاعدة ، ومن مسائل بيع الثمر قبل بدو صلاحه ، ما قد عمت به البلوى في كثير من بلاد الإسلام أو أكثرها ، لا سيما دمشق . وذلك أن الأرض تكون مشتملة على غراس ، وأرض تصلح للزرع ، وربما اشتملت مع ذلك على مساكن ، فيريد صاحبها أن يؤاجرها لمن يسقيها ويزدرعها ، أو يسكنها مع ذلك . فهذا - إذا كان فيها أرض وغراس - مما اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة أقوال :

أحدها : أن ذلك لا يجوز بحال ، وهو قول الكوفيين والشافعي ، وهو المشهور من مذهب أحمد عند أكثر أصحابه .

والقول الثاني : يجوز إذا كان الشجر قليلا وكان البياض الثلثين أو أكثر ، وكذلك إذا استكرى دارا فيها نخلات قليلة ، أو شجرات عنب ونحو ذلك ، وهذا قول مالك ، وعن أحمد كالقولين . قال الكرماني : قيل لأحمد : الرجل يستأجر الأرض فيها نخلات ؟ قال : أخاف أن يكون استأجر شجرا لم يثمر ، وكأنه لم يعجبه ، أظنه : أراد الشجر ، لم أفهم عن أحمد أكثر من هذا .

وقد تقدم عنه فيما إذا باع ربويا بجنسه معه من غير جنسه إذا كان المقصود الأكبر هو غير الجنس ، كشاة ذات صوف أو لبن [ ص: 198 ] بصوف أو لبن روايتان . وأكثر أصوله على الجواز ، كقول مالك ، فإنه يقول : إذا ابتاع عبدا وله مال ، وكان مقصوده العبد : جاز ، وإن كان المال مجهولا ، أو من جنس الثمن ، ولأنه يقول : إذا ابتاع أرضا أو شجرا فيها ثمر ، أو زرع لم يدرك ، يجوز إذا كان مقصوده الأرض والشجر .

وهذا في البيع نظير مسألتنا في الإجارة ، فإن ابتياع الأرض بمنزلة اشترائها ، واشتراء النخل ودخول الثمرة التي لم تأمن العاهة في البيع تبعا للأصل بمنزلة دخول ثمر النخلات والعنب في الإجارة تبعا .

وحجة الفريقين في المنع : ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من نهيه عن بيع السنين ، وبيع الثمر حتى يبدو صلاحه ، كما أخرجا في الصحيحين عن ابن عمر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، نهى البائع والمبتاع " ، وفيهما عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تباع الثمرة حتى تشقح " ، قيل : وما تشقح ؟ قال : " تحمار أو تصفار ، ويؤكل منها " وفي رواية لمسلم : أن هذا التفسير من كلام سعيد بن المثنى المحدث عن جابر .

وفي الصحيحين عن جابر قال : " نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة " ، وفي رواية لهما " وعن بيع السنين " بدل " المعاومة " ، وفيهما أيضا عن زيد بن أبي أنيسة عن عطاء [ ص: 199 ] عن جابر : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم " نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة ، وأن يشتري النخل حتى يشقه ، والإشقاه : أن يحمر أو يصفر أو يؤكل منه شيء ، والمحاقلة : أن يباع الحقل بكيل من الطعام معلوم ، والمزابنة : أن يباع النخل بأوساق من التمر . والمخابرة : الثلث والربع ، وأشباه ذلك " . قال زيد : قلت لعطاء : أسمعت جابرا يذكر هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : نعم ، وفيهما عن أبي البختري قال : سألت ابن عباس عن بيع النخل ، فقال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع النخل حتى يأكل منه ، أو يؤكل ، وحتى يوزن . فقلت : ما يوزن ؟ فقال رجل عنده : حتى [يحرز ] " ، وفي مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " [ لا تبتاعوا الثمار حتى يبدو صلاحها ] ، لا تبتاعوا الثمر بالتمر " .

وقال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن بيع ثمر النخل سنين لا يجوز ، قالوا : فإذا أكراه الأرض والشجر ، فقد باعه الثمر قبل أن يخلق ، وباعه سنة أو سنتين ، وهذا هو الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم منع منه مطلقا طردا لعموم القياس ، ومن جوزه إذا كان قليلا قال : الضرر اليسير يحتمل في العقود ، كما لو ابتاع النخل وعليه ثمر لم يؤبر ، أو أبر ولم يبد صلاحه ، فإنه يجوز ، وإن لم يجز إفراده بالعقد .

وهذا متوجه جدا على أصل الشافعي وأحمد وغيرهما من فقهاء [ ص: 200 ] الحديث ، ولكن لا يتوجه على أصل أبي حنيفة ; لأنه لا يجوز ابتياع الثمر بشرط البقاء ، ويجوز ابتياعه قبل بدو صلاحه ، وموجب العقد : القطع في الحال ، فإذا ابتاعه مع الأصل فإنما استحق إبقاءه ; لأن الأصل ملكه ، وسنتكلم إن شاء الله على هذا الأصل .

وذكر أبو عبيد : أن المنع من إجارة الأرض التي فيها شجر كثير : إجماع .

والقول الثالث : أنه يجوز استئجار الأرض التي فيها شجر ، ودخول الشجر في الإجارة مطلقا ، وهذا قول ابن عقيل ، وإليه مال حرب الكرماني ، وهذا القول كالإجماع من السلف ، وإن كان المشهور عن الأئمة المتبوعين خلافه ، فقد روى سعيد بن منصور - ورواه عنه حرب الكرماني في مسائله - قال : حدثنا عباد بن عباد عن هشام بن عروة عن أبيه : " أن أسيد بن حضير توفي وعليه ستة آلاف درهم [دين] ، فدعا عمر غرماءه ، فقبلهم أرضه سنين ، وفيها النخل والشجر " .

وأيضا : فإن عمر بن الخطاب ضرب الخراج على أرض السواد وغيرها ، فأقر الأرض التي فيها النخل والعنب في أيدي أهل الأرض ، وجعل على كل جريب من جرب الأرض السواد والبيضاء خراجا مقدرا ، والمشهور : أنه جعل على جريب العنب : عشرة دراهم ، وعلى جريب النخل : ثمانية دراهم ، وعلى جريب الرطبة : ستة دراهم ، وعلى جريب الزرع : درهما وقفيزا من طعام .

والمشهور عند مالك والشافعي وأحمد : أن هذه المخارجة [ ص: 201 ] تجري مجرى المؤاجرة ، وإنما لم يؤقته لعموم المصلحة ، وأن الخراج أجرة الأرض ، فهذا بعينه إجارة الأرض السوداء التي فيها شجر ، وهو مما أجمع عليه عمر والمسلمون في زمانه وبعده ، ولهذا تعجب أبو عبيد في كتاب الأموال من هذا فرأى أن هذه [المعاملة] تخالف ما علمه من مذاهب الفقهاء .

وحجة ابن عقيل : أن إجارة الأرض جائزة ، والحاجة إليها داعية ، ولا يمكن إجارتها إذا كان فيها شجر إلا بإجارة الشجر ، وما لا يتم الجائز إلا به فهو جائز ; لأن المستأجر لا يتبرع بسقي الشجر ، وقد لا يساقي عليها .

وهذا كما أن مالكا والشافعي كان القياس عندهما أنه لا تجوز المزارعة ، فإذا ساقى العامل على شجر فيها بياض جوزا المزارعة في ذلك البياض ، تبعا للمساقاة فيجوزه مالك إذا كان دون الثلث ، كما قال في بيع الشجر تبعا للأرض ، وكذلك الشافعي يجوزه إذا كان البياض قليلا لا يمكن سقي النخل إلا بسقيه ، وإن كان كثيرا والنخل قليلا ففيه لأصحابه وجهان .

هذا إذا جمع بينهما في عقد واحد ، وسوى بينهما في الجزء المشروط ، كالثلث والربع ، فأما إن فاضل بين الجزأين ففيه وجهان لأصحابه . . وكذلك إن فرق بينهما في عقدين وقدم المساقاة ففيه وجهان ، فأما إن قدم المزارعة لم تصح المزارعة وجها واحدا .

فقد جوز المزارعة التي لا تجوز عندهما تبعا للمساقاة ، فكذلك يجوز إجارة الشجر تبعا لإجارة الأرض .

[ ص: 202 ] وقول ابن عقيل هو قياس أحد وجهي أصحاب الشافعي بلا شك ، ولأن المانعين من هذا هم بين محتال على جوازه ، [ أو مرتكب] لما يظن أنه حرام [أو ضار] ومتضرر ، فإن الكوفيين احتالوا على الجواز : تارة بأن يؤجر الأرض فقط ويبيحه ثمر الشجر ، كما يقولون في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ، يبيعه إياها مطلقا ، أو بشرط القطع بجميع الأجرة ، ويبيحه إبقاءها ، وهذه الحيلة منقولة عن أبي حنيفة والثوري وغيرهما ، وتارة بأن يكريه الأرض بجميع الأجرة ويساقيه على الشجر بالمحاباة ، مثل أن يساقيه على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك .

وهذه الحيلة إنما يجوزها من يجوز المساقاة ، كأبي يوسف ومحمد والشافعي في القديم ، فأما أبو حنيفة فلا يجوزها بحال ، وكذلك الشافعي إنما يجوزها في الجديد في النخل والعنب ، فقد اضطروا في هذه المعاملة إلى أن تسمى الأجرة في مقابلة منفعة الأرض ، ويتبرع له إما بإعراء الشجر ، وإما بالمحاباة في مساقاتها .

ولفرط الحاجة إلى هذه المعاملة ذكر بعض من صنف في إبطال الحيل من أصحاب الإمام أحمد هذه الحيلة فيما يجوز من الحيل - أعني حيلة المحاباة في المساقاة - والمنصوص عن أحمد وأكثر أصحابه : إبطال هذه الحيلة بعينها ، كمذهب مالك وغيره .

التالي السابق


الخدمات العلمية