صفحة جزء
ولما اعتقد بعض الفقهاء أن الإجارة لا تكون إلا على منفعة ليست عينا ، ورأى جواز إجارة الظئر ، قال : المعقود عليه هو وضع الطفل في حجرها ، واللبن دخل ضمنا وتبعا ، كنقع البئر ، وهذا مكابرة للعقل والحس ، فإنا نعلم بالاضطرار أن المقصود بالعقد هو اللبن كما ذكره الله بقوله : ( فإن أرضعن لكم ) ، وضم الطفل إلى حجرها إن فعل فإنما هو وسيلة إلى ذلك ، وإنما العلة ما ذكرته : من أن الفائدة التي تستخلف مع بقاء أصلها تجري مجرى المنفعة ، وليس من البيع الخاص ، فإن الله لم يسم العوض إلا أجرا ، لم يسمه ثمنا ، وهذا بخلاف ما لو حلب اللبن ، فإنه لا يسمى المعاوضة عليه حينئذ إلا بيعا ; لأنه لم يستوف الفائدة من أصلها ، كما يستوفي المنفعة من أصلها .

فلما كان للفوائد العينية التي يمكن فصلها عن أصلها حالان : [ ص: 214 ] حال تشبه فيه المنافع المحضة ، وهي حال اتصالها واستيفاء المنفعة ، وحال تشبه فيه الأعيان المحضة ، وهي حال انفصالها وقبضها كقبض الأعيان ، فإذا كان صاحب الشجر هو الذي يسقيها ويعمل عليها حتى تصلح الثمرة ، فإنما يبيع ثمرة محضة ، كما لو كان هو الذي يشق الأرض ويبذرها ويسقيها حتى يصلح الزرع ، فإنما يبيع زرعا محضا ، وإن كان المشتري هو الذي يجد ويحصد ، كما لو باعها على الأرض ، وكان المشتري هو الذي ينقل ويحول ، ولهذا جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما في النهي عن بيع الحب حتى يشتد ، وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه ، فإن هذا بيع محض للثمرة والزرع ، وأما إذا كان المالك يدفع الشجرة إلى [المكتري] حتى يسقيها ويلقحها ويدفع عنها الأذى ، فهو بمنزلة دفعه الأرض إلى من يشقها ويبذرها ويسقيها . ولهذا سوى بينهما في المساقاة والمزارعة ، فكما أن كراء الأرض ليس ببيع لزرعها ، فكذلك كراء الشجرة ليس ببيع لثمرها ، بل نسبة كراء الشجر إلى كراء الأرض كنسبة المساقاة إلى المزارعة ، هذا معاملة من النماء ، وهذا كراء بعوض معلوم .

فإذا كانت هذه الفوائد قد ساوت المنافع في الوقف لأصلها وفي التبرعات بها ، وفي المشاركة بجزء من نمائها ، وفي المعاوضة عليها بعد صلاحها ، فكذلك تساويها في المعاوضة على استفادتها وتحصيلها ، ولو فرق بينهما بأن الزرع إنما يخرج بالعمل بخلاف الثمر فإنه يخرج بلا عمل ، كان هذا الفرق عديم التأثير بدليل المساقاة والمزارعة . وليس بصحيح ، فإن للعمل تأثيرا في الإثمار ، كما له تأثير في الإنبات ، ومع [ ص: 215 ] عدم العمل عليها قد يعدم الثمر وقد ينقص ، فإن من الشجر ما لو لم يسق لم يثمر ، ولو لم يكن للعمل عليه تأثير أصلا لم يجز دفعه إلى عامل بجزء من ثمره ، ولم يجز في مثل هذه الصورة إجارته قبل بدو صلاحه ، فإنه بيع محض للثمرة ، لا إجارة للشجر . ويكون كمن أكرى أرضه لمن يأخذ منها ما ينبته الله بلا عمل أحد أصلا قبل وجوده .

فإن قيل : المقصود بالعقد هنا غرر ; لأنه قد يثمر قليلا ، وقد يثمر كثيرا .

يقال : مثله في إكراء الأرض ، فإن المقصود بالعقد غرر أيضا على هذا التقدير ، فإنه قد ينبت قليلا وقد ينبت كثيرا .

وإن قيل : المعقود عليه هناك التمكن من الازدراع لا نفس الزرع النابت .

قيل : المعقود عليه هنا : التمكن من الاستثمار ، لا نفس الثمر الخارج . ومعلوم أن المقصود فيهما إنما هو الزرع والثمر ، وإنما يجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك . كما أن المقصود باكتراء الدار إنما هو السكنى ، وإن وجب العوض بالتمكن من تحصيل ذلك .

فالمقصود في اكتراء الأرض للزرع : إنما هو نفس الأعيان التي تحصد ، ليس كاكترائها للسكنى أو البناء ، فإن المقصود هناك نفس الانتفاع بجعل الأعيان فيها .

وهذا بين عند التأمل ، لا يزيده البحث عنه إلا وضوحا .

فظهر به أن الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيع الثمرة قبل زهوها ، وبيع الحب قبل اشتداده ، ليس هو إن شاء الله إكراؤها لمن يحصل ثمرتها وزرعها بعمله وسقيه ، ولا هذا داخل في نهيه لفظا ولا معنى .

يوضح ذلك : أن البائع لثمرتها عليه تمام سقيها والعمل عليها [ ص: 216 ] حتى يتمكن المشتري [ من الجذاذ ، كما على بائع الزرع تمام سقيه حتى يتمكن المشتري ] من الحصاد ، فإن هذا من تمام التوفية ، ومؤنة التوفية على البائع ، كالكيل والوزن ، وأما المكري لها لمن يخدمها حتى تثمر ، فهو كمكري الأرض لمن يخدمها حتى تنبت ، ليس على المكري عمل أصلا ، وإنما عليه التمكين من العمل الذي يحصل به الثمر والزرع .

ولكن يقال : طرد هذا : أن يجوز إكراء البهائم لمن يعلفها ويسقيها ويحتلب لبنها .

قيل : إذا جوزنا على إحدى الروايتين أن تدفع الماشية إلى من يعلفها ويسقيها بجزء من درها ونسلها جاز دفعها إلى من يعمل عليها لدرها ونسلها بشيء مضمون .

وإن قيل : فهلا جاز إجارتها لاحتلاب لبنها كما جاز إجارة الظئر ؟

قيل : إجارة الظئر أن ترضع بعمل صاحبها للغنم ; لأن الظئر هي التي ترضع الطفل ، فإذا كانت هي التي توفي المنفعة فنظيره : أن يكون المؤجر هو الذي يوفي منفعة الإرضاع ، وحينئذ فالقياس : جوازه . ولو كان لرجل غنم فاستأجر غنم رجل ليرضعها لم يكن هذا ممتنعا . وأما إن كان المستأجر هو الذي يحلب اللبن ، أو هو الذي يستوفيه ، فهذا مشتر اللبن ، ليس مستوفيا لمنفعة ، ولا مستوفيا للعين بعمل ، وهو شبيه باشتراء الثمرة ، واحتلابه كقطافها ، وهو الذي نهى [ ص: 217 ] عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " لا يباع لبن في ضرع " بخلاف ما لو استأجرها لأن يقوم عليها ويحتلب لبنها ، فهذا نظير اكتراء الأرض والشجر .

التالي السابق


الخدمات العلمية