صفحة جزء
وذلك أن الأصل في هذه المعاوضات والمقابلات هو التعادل من الجانبين . فإن اشتمل أحدهما على غرر أو ربا دخلها الظلم ، فحرمها الله الذي حرم الظلم على نفسه ، وجعله محرما على عباده . فإذا كان أحد المتبايعين إذا ملك الثمن بقي الآخر تحت الخطر : لم يجز . ولذلك حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - بيع الثمر قبل بدو صلاحه . فكذلك هذا إذا اشترطا لأحد الشريكين مكانا معينا خرجا عن موجب الشركة . فإن الشركة تقتضي الاشتراك في النماء . فإذا انفرد أحدهما بالمعين لم يبق للآخر فيه نصيب ، ودخله الخطر ومعنى القمار ، كما ذكره رافع في قوله : " فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه " ، فيفوز أحدهما ويخيب الآخر ، وهذا معنى القمار ، وأخبر رافع : " أنه لم يكن لهم كراء على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا هذا " وأنه إنما زجر عنه لأجل ما فيه من [ ص: 241 ] المخاطرة ومعنى القمار ، وأن النهي إنما انصرف إلى ذلك الكراء المعهود ، لا إلى ما يكون فيه الأجرة مضمونة في الذمة . وسأشير - إن شاء الله - إلى مثل ذلك في نهيه عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، ورافع أعلم بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أي شيء وقع ، وهذا - والله أعلم - هو الذي انتهى عنه عبد الله بن عمر ، فإنه قال لما حدثه رافع : " قد علمت أنا كنا نكري مزارعنا على الأربعاء وبشيء من التبن " ، فبين أنهم كانوا يكرون بزرع مكان معين . وكان ابن عمر يفعله ; لأنهم كانوا يفعلونه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغه النهي .

يدل على ذلك : أن ابن عمر كان يروي حديث معاملة خيبر دائما ويفتي به ، ويفتي بالمزارعة على الأرض البيضاء ، وأهل بيته أيضا بعد حديث رافع . فروى حرب الكرماني قال : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه ، حدثنا معتمر بن سليمان ، سمعت كليب بن وائل قال : " أتيت ابن عمر فقلت : أتاني رجل له أرض وماء ، وليس له بذر ولا بقر ، فأخذتها بالنصف ، فبذرت فيها بذري ، وعملت فيها ببقري فناصفته ؟ قال : حسن " وقال : حدثنا ابن أخي حزم ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا سعيد بن عبيد ، سمعت سالم بن عبد الله - وأتاه رجل - فقال : " الرجل منا ينطلق إلى الرجل فيقول : أجيء ببذري وبقري وأعمل أرضك ، فما أخرج الله منه فلك منه كذا ولي منه كذا ؟ قال : لا بأس به ، ونحن نصنعه " . وهكذا أخبر أقارب رافع ، ففي البخاري عن رافع قال : " حدثني عماي أنهم كانوا يكرون الأرض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما ينبت على الأربعاء أو بشيء يستثنيه صاحب الأرض ، فنهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك . فقيل لرافع : فكيف بالدينار [ ص: 242 ] والدرهم ؟ فقال : ليس بأس بالدينار والدرهم " . وكان الذي نهى عنه من ذلك ما لو نظر فيه ذو الفهم بالحلال والحرام لم يجزه ، لما فيه من المخاطرة . وعن أسيد بن ظهير قال : " كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أعطاها بالثلث والربع والنصف . ويشترط ثلاث جداول والقصارة وما سقى الربيع . وكان العيش إذ ذاك شديدا ، وكان يعمل فيها بالحديد ما شاء الله ، ويصيب منها منفعة ، فأتانا رافع بن خديج فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهاكم عن الحقل ، ويقول : من استغنى عن أرضه فليمنحها أخاه أو ليدع " رواه أحمد وابن ماجه . وروى أبو داود قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ، زاد أحمد : " وينهاكم عن المزابنة ، والمزابنة : أن يكون الرجل له المال العظيم من النخل فيأتيه الرجل فيقول : أخذته بكذا وكذا وسقا من تمر . والقصارة ما سقط من السنبل " . وهكذا أخبر سعد بن أبي وقاص وجابر ، فأخبر سعد : " أن أصحاب المزارع في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي من الزرع ، وما سعد بالماء مما حول البئر . فجاءوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختصموا في ذلك ، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكروا ذلك ، وقال اكروا بالذهب والفضة " ، رواه أحمد وأبو داود والنسائي . فهذا صريح في الإذن بالكراء بالذهب والفضة ، وأن النهي إنما كان عن اشتراط زرع مكان معين . وعن جابر - رضي الله عنه - قال : " كنا نخابر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنصيب من القصري ، ومن كذا ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من كانت له أرض فليزرعها ، أو ليمنحها أخاه أو فليدعها " ، رواه مسلم .

[ ص: 243 ] فهؤلاء أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين رووا عنه النهي قد أخبروا بالصورة التي نهى عنها ، والعلة التي نهى من أجلها . وإذا كان قد جاء في بعض طرق الحديث : " أنه نهى عن كراء المزارع " مطلقا فالتعريف للكراء المعهود بينهم . وإذا قال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تكروا المزارع " فإنما أراد الكراء الذي يعرفونه كما فهموه من كلامه ، وهم أعلم بمقصوده . وكما جاء مفسرا عنه " أنه رخص في غير ذلك الكراء " [ومما ] يشبه ذلك ما قرن به النهي من المزابنة ونحوها . واللفظ - وإن كان في نفسه مطلقا - فإنه إذا كان خطابا لمعين في مثل الجواب عن سؤال ، أو عقب حكاية حال ونحو ذلك : فإنه كثيرا ما يكون مقيدا بمثل حال المخاطب . كما لو قال المريض للطبيب : إن به حرارة ، فقال له : لا تأكل الدسم ; فإنه يعلم أن النهي مقيد بتلك الحال .

وذلك : أن اللفظ المطلق إذا كان له مسمى معهود ، أو حال يقتضيه : انصرف إليه . وإن كان نكرة ، كالمتبايعين إذا قال أحدهما : بعتك بعشرة دراهم ، فإنها مطلقة في اللفظ ، ثم لا ينصرف إلا إلى المعهود من الدراهم . فإذا كان المخاطبون لا يتعارفون بينهم لفظ " الكراء " إلا كذلك الذي كانوا يفعلونه ، ثم خوطبوا به : لم ينصرف إلا إلى ما يعرفونه . وكان ذلك من باب التخصيص العرفي ، كلفظ " الدابة " إذا كان معروفا بينهم أنه الفرس ، أو ذوات الحافر ، فقال : لا تأتني بدابة : لم ينصرف هذا المطلق إلا إلى ذلك ، ونهي النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم كان مقيدا بالعرف وبالسؤال . وقد تقدم ما في الصحيحين عن رافع بن خديج وعن ظهير بن رافع قال : دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " ما تصنعون بمحاقلكم ؟ قلت : نؤاجرها بما على الربيع ، وعلى الأوسق [ ص: 244 ] من التمر والشعير قال : لا تفعلوا ، ازرعوها ، أو أزرعوها أو أمسكوها " .

فقد صرح بأن النهي وقع عما كانوا يفعلونه ، وأما المزارعة المحضة : فلم يتناولها النهي ، ولا ذكرها رافع وغيره فيما يجوز من الكراء ; لأنها - والله أعلم - عندهم جنس آخر غير الكراء المعتاد . فإن الكراء اسم لما وجب فيه أجرة معلومة ، إما عين ، وإما دين . فإن كان دينا في الذمة مضمونا فهو جائز ، وكذلك إن كان عينا من غير الزرع ، وأما إن كان عينا من الزرع لم يجز .

فأما المزارعة بجزء شائع من جميع الزرع فليس هو الكراء المطلق ، بل هو شركة محضة ، إذ ليس جعل العامل مكتريا للأرض ، بجزء من الزرع بأولى من جعل المالك مكتريا للعامل بالجزء الآخر . وإن كان من الناس من يسمي هذا كراء أيضا ، فإنما هو كراء بالمعنى العام الذي تقدم بيانه . فأما الكراء الخاص الذي تكلم به رافع وغيره فلا ، ولهذا السبب بين رافع أحد نوعي الكراء الجائز ، وبين النوع الآخر الذي نهوا عنه ، ولم يتعرض للشركة ; لأنها جنس آخر .

بقي أن يقال : فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه وإلا فليمسكها " أمر - إذا لم يفعل واحدا من الزرع والمنيحة - أن يمسكها . وذلك يقتضي المنع من المؤاجرة ومن المزارعة كما تقدم .

فيقال : الأمر بهذا أمر ندب واستحباب ، لا أمر إيجاب ، أو كان أمر إيجاب في الابتداء لينزجروا عما اعتادوه من الكراء الفاسد . وهذا كما أنه - صلى الله عليه وسلم - لما نهاهم عن لحوم الحمر الأهلية ، قال في الآنية [ ص: 245 ] التي كانوا يطبخون فيها : " أهريقوا ما فيها واكسروها " ، وقال - صلى الله عليه وسلم - في آنية أهل الكتاب حين سأله عنها أبو ثعلبة الخشني : " إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها ، وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء " ; وذلك لأن النفوس إذا اعتادت المعصية فقد لا تنفطم عنها انفطاما جيدا إلا بترك ما يقاربها من المباح . كما قيل : " لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال " ، كما أنها أحيانا لا تترك المعصية إلا بتدريج ، لا بتركها جملة .

فهذا يقع تارة وهذا يقع تارة . ولهذا يوجد في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن خشي منه النفرة عن الطاعة : الرخصة له في أشياء يستغني بها عن المحرم ، ولمن وثق بإيمانه وصبره : النهي عن بعض ما يستحب له تركه مبالغة في فعل الأفضل . ولهذا يستحب لمن وثق بإيمانه وصبره - من فعل المستحبات البدنية والمالية ، كالخروج عن جميع ماله - مثل أبي بكر الصديق - ما لا يستحب لمن لم يكن حاله كذلك ، كالرجل الذي جاءه ببيضة من ذهب ، فحذفه بها ، فلو أصابته لأوجعته . ثم قال : " يذهب أحدكم فيخرج ماله ، ثم يجلس كلا على الناس " .

يدل على ذلك : ما قدمناه من رواية مسلم الصحيحة عن ثابت بن الضحاك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " نهى عن المزارعة ، وأمر بالمؤاجرة ، وقال : لا بأس بها " وما ذكرناه من رواية سعد بن أبي وقاص : " أنه نهاهم [ ص: 246 ] أن يكروا بزرع موضع معين ، وقال : اكروا بالذهب والفضة وكذلك فهمته الصحابة . فإن رافع بن خديج قد روى ذلك وأخبر أنه : " لا بأس بكرائها بالذهب والفضة " وكذلك فقهاء الصحابة كزيد بن ثابت وابن عباس . ففي الصحيحين عن عمرو بن دينار قال : قلت لطاوس : " لو تركت المخابرة ؟ فإنهم يزعمون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنها ، قال : أي عمرو ، إني أعطيهم وأعينهم ، وإن أعلمهم أخبرني - يعني ابن عباس - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عنه ولكن قال : أن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما " . وعن ابن عباس أيضا : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يحرم المزارعة ، ولكن أمر أن يرفق بعضهم ببعض " رواه مسلم مجملا والترمذي وقال : حديث حسن صحيح .

فقد أخبر طاوس عن ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما دعاهم إلى الأفضل وهو التبرع ، قال : " وأنا أعينهم وأعطيهم " . وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرفق الذي منه واجب وهو ترك الربا والغرر ، ومنه مستحب كالعارية والقرض ، ولهذا لما كان التبرع بالأرض بلا أجرة من باب الإحسان كان المسلم أحق به ، فقال : " لأن يمنح أحدكم أخاه أرضه خير له من أن يأخذ عليه خرجا معلوما " . وقال : " من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه أو ليمسكها " ، فكان الأخ هو الممنوح . ولما كان أهل الكتاب ليسوا من الإخوان عاملهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يمنحهم ، لا [ ص: 247 ] سيما والتبرع إنما يكون عن فضل غنى ، فمن كان محتاجا إلى منفعة أرضه لم يستحب له المنيحة ، كما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة أرض خيبر ، وكما كان الأنصار محتاجين في أول الإسلام إلى أرضهم ، حيث عاملوا عليها المهاجرين . وقد توجب الشريعة التبرع عند الحاجة ، كما نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : " عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة التي دفت " ليطعموا الجياع ; لأن إطعامهم واجب ، فلما كان المسلمون محتاجين إلى منفعة الأرض وأصحابها أغنياء عنها نهاهم عن المعاوضة ليجودوا بالتبرع ، ولم يأمرهم بالتبرع عينا ، كما نهاهم عن الادخار ، فإن من نهي عن الانتفاع بماله جاد ببذله . إذ لا يترك بطالا ، وقد ينهى النبي - صلى الله عليه وسلم - بل الأئمة ، عن بعض أنواع المباح في بعض الأحوال لما في ذلك من منفعة المنهي كما نهاهم في بعض المغازي .

وأما ما رواه جابر من نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن المخابرة ، فهذه هي المخابرة التي نهى عنها . واللام لتعريف العهد . ولم تكن المخابرة عندهم إلا ذلك .

يبين ذلك ما في الصحيح عن ابن عمر قال : " كنا لا نرى بالخبر بأسا حتى كان عام أول ، فزعم رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه ، فتركناه من أجله " فأخبر ابن عمر أن رافعا روى النهي عن الخبر ، وقد تقدم معنى حديث رافع . قال أبو عبيد : الخبر - بكسر الخاء - بمعنى المخابرة . والمخابرة : المزارعة بالنصف والثلث والربع ، وأقل وأكثر . وكان أبو عبيد يقول : لهذا سمي الأكار خبيرا ; لأنه يخابر على الأرض ، والمخابرة : هي المؤاكرة .

[ ص: 248 ] وقد قال بعضهم : أصل هذا من خيبر ; لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرها في أيديهم على النصف ، فقيل : خابرهم ، أي عاملهم في خيبر ، وليس هذا بشيء ، فإن معاملته بخيبر لم ينه عنها قط ، بل فعلها الصحابة في حياته وبعد موته ، وإنما روى حديث المخابرة رافع بن خديج وجابر ، وقد فسرا ما كانوا يفعلونه ، والخبير : هو الفلاح سمي بذلك ; لأنه يخبر الأرض .

وقد ذهب طائفة من الفقهاء إلى الفرق بين المخابرة والمزارعة ، فقالوا : المخابرة هي المعاملة على أن يكون البذر من العامل ، والمزارعة على أن يكون البذر من المالك . قالوا : والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة لا المزارعة .

وهذا أيضا ضعيف ، فإنا قد ذكرنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما في الصحيح من أنه " نهى عن المزارعة " كما " نهى عن المخابرة " وكما " نهى عن كراء الأرض " . وهذه الألفاظ في أصل اللغة عامة لموضع نهيه وغير موضع نهيه ، وإنما اختصت بما يفعلونه لأجل التخصيص العرفي لفظا وفعلا ، ولأجل القرينة اللفظية وهي لام العهد وسؤال السائل ، وإلا فقد نقل أهل اللغة أن المخابرة هي المزارعة . والاشتقاق يدل على ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية