موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

صفحة جزء
( بحث سوء الظن )

وكما يجب عليك السكوت بلسانك عن مساوئه يجب عليك السكوت بقلبك وذلك بترك إساءة الظن ، فسوء الظن غيبة بالقلب وهو منهي عنه أيضا ، وحده أن لا تحمل فعله على وجه فاسد ما أمكن أن يحمل على وجه خير ، فأما ما انكشف بيقين ومشاهدة فاحمله على سهو ونسيان إن أمكن ، وسوء الظن يدعو إلى التجسس والتحسس وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " لا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا " . والتجسس في تطلع الأخبار ، والتحسس بالمراقبة بالعين ، فستر العيوب والتجاهل والتغافل عنها شيمة أهل الدين .

واعلم أنه لا يتم إيمان المرء ما لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، وأقل درجات الأخوة أن يعامل أخاه بما يحب أن يعامله به ، ومنشأ التقصير في ستر العورة أو السعي في كشفها الداء الدفين وهو الحقد والحسد ، ومن في قلبه سخيمة على مسلم فإيمانه ضعيف ، وأمر مخطر ، وقلبه خبيث لا يصلح للقاء الله .

ومن ذلك : أن يسكت عن إفشاء سره الذي استودعه ، وله أن ينكره وإن كان كاذبا فليس الصدق واجبا في كل مقام ، فإنه كما يجوز للرجل أن يخفي عيوب نفسه وأسراره وإن احتاج إلى الكذب فله أن يفعل ذلك في حق أخيه ، فإن أخاه نازل منزلته وهما كشخص واحد لا يختلفان إلا بالبدن ، هذه حقيقة الأخوة ، وقد قال عليه السلام : " من ستر عورة أخيه ستره الله [ ص: 133 ] تعالى في الدنيا والآخرة " وقال عليه السلام : " إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهو أمانة " وقال : " المجالس بالأمانة " وفي رواية : " إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة ولا يحل لأحدهما أن يفشي على صاحبه ما يكره " . قيل لبعضهم : " كيف حفظك للسر " ؟ قال : " أنا قبره ، فإن صدور الأحرار قبور الأسرار " . وأفشى بعضهم سرا له إلى أخيه ثم قال له " حفظت " فقال : " بل نسيت " . وقال العباس لابنه " عبد الله " : " إني أرى هذا الرجل - يعني عمر رضي الله عنه - يقدمك على الأشياخ فاحفظ مني خمسا : لا تفشين له سرا ، ولا تغتابن عنده أحدا ، ولا يجربن عليك كذبا ، ولا تعصين له أمرا ، ولا يطلعن منك على خيانة " فقال " الشعبي " : كل كلمة من هذه الخمس خير من ألف .

ومن ذلك : السكوت على المماراة والمدافعة في كل ما يتكلم به أخوك ، قال " ابن عباس " : " لا تمار سفيها فيؤذيك ولا حليما فيقليك " وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة ومن ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة " هذا مع أن تركه مبطلا واجب ، وقد جعل ثواب النفل أعظم ؛ لأن السكوت عن الحق أشد على النفس من السكوت على الباطل ، وإنما الأجر على قدر النصب . وأشد الأسباب لإثارة نار الحقد بين الإخوان المماراة والمناقشة فإنها عين التدابر والتقاطع ، فإن التقاطع يقع أولا بالآراء ثم بالأقوال ثم بالأبدان ، وقال عليه السلام : " لا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا " وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحرمه ولا يخذله ، بحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، وأشد الاحتقار المماراة ، فإن من رد على غيره كلاما فقد نسبه إلى الجهل أو الغفلة والسهو عن فهم الشيء على ما هو عليه ، وكل ذلك استحقار وإيغار للصدر وإيحاش ، وفي حديث " أبي أمامة " قال : " خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتمارى فغضب وقال : ذروا المراء لقلة خيره ، وذروا المراء فإن نفعه قليل ، وإنه يهيج العداوة بين الإخوان " .

[ ص: 134 ] وقال بعض السلف : " من لاحظ الإخوان وماراهم قلت مروءته ، وذهبت كرامته " . وقال غيره : " إياك ومماراة الرجال فإنك لن تعدم مكر حليم أو مفاجأة لئيم " . قال " الحسن " : " لا تشترى عداوة رجل بمودة ألف رجل " . وعلى الجملة فلا باعث على المماراة إلا إظهار التميز بمزيد العقل والفضل ، واحتقار المردود عليه بإظهار جهله ، وهذا يشتمل على التكبر والاحتقار والإيذاء والشتم بالحمق والجهل ، ولا معنى للمعاداة إلا هذا ، فكيف تضام الأخوة والمصافاة ، فقد روى " ابن عباس " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدا فتخلفه " وقد قال عليه السلام : " إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط وجه وحسن خلق " والمماراة مضادة لحسن الخلق . واعلم أن قوام الأخوة بالموافقة في الكلام والفعل والشفقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية