موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

صفحة جزء
[ ص: 151 ] كتاب العزلة والمخالطة

اعلم أن من السلف من آثر العزلة لفوائدها كالمواظبة على العبادة والفكر وتربية العلم ، والتخلص من ارتكاب المناهي التي يتعرض الإنسان لها بالمخالطة كالرياء والغيبة والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومسارقة الطبع الأخلاق الرديئة والأعمال الخبيثة من جلساء السوء إلى غير ذلك .

وأما أكثر السلف فذهبوا إلى استحباب المخالطة واستكثار المعارف والإخوان والتآلف والتحبب إلى المؤمنين والاستعانة بهم في الدين تعاونا على البر والتقوى ، وإن فوائد العزلة المتقدمة يمكن نيلها من المخالطة بالمجاهدة ومغالبة النفس . وبالجملة فللمخالطة فوائد عظيمة تفوت بالعزلة .

فإن قلت : ما هي فوائد المخالطة والدواعي إليها ؟ فاعلم : أنها هي التعليم والتعلم ، والنفع والانتفاع ، والتأديب والتأدب ، والاستئناس والإيناس ، ونيل الثواب وإنالته في القيام بالحقوق ، أو اعتياد التواضع ، أو استفادة التجارب من مشاهدة الأحوال والاعتبار بها .

فأما العلم والتعليم : فهما أعظم العبادات في الدنيا ولا يتصور ذلك إلا بالمخالطة ، والمحتاج إلى التعلم لما هو فرض عليه عاص بالعزلة ، ومن كان يقدر على التبرز في علوم الشرع والعقل فالعزلة في حقه قبل التعلم غاية الخسران ، ولهذا قال " النخعي " وغيره : " تفقه ثم اعتزل " ومن اعتزل قبل التعلم فهو في الأكثر مضيع أوقاته بنوم أو فكر في هوس ، وغايته أن يستغرق في الأوقات بأوراد يستوعبها ولا ينفك في أعماله بالبدن والقلب عن أنواع من الغرور ، ويكون في أكثر أحواله ضحكة للشيطان وهو يرى نفسه من العباد ، فالعلم هو أصل الدين ، ولا خير في عزلة العوام والجهال .

وأما التعليم : ففيه ثواب عظيم مهما صحت نية المعلم والمتعلم .

وأما الانتفاع بالناس : فبالكسب والمعاملة إذ لا يتأتى إلا بالمخالطة . ومن اكتسب من وجهه وتصدق منه كان أفضل من المعتزل المشتغل بالنافلة .

وأما النفع : فهو أن ينفع الناس إما بماله أو ببدنه ، فيقوم بحاجاتهم على سبيل الحسبة ، ففي النهوض بقضاء حوائج المسلمين ثواب ، وذلك لا ينال إلا بالمخالطة ، ومن قدر عليه مع القيام بحدود الشرع فهو أفضل له من العزلة .

وأما التأديب بنصح الغير والتأدب : ونعني به الارتياض بمقاساة الناس والمجاهدة في [ ص: 152 ] تحمل أذاهم كسرا للنفس وقهرا للشهوات فهي من الفوائد التي تستفاد بالمخالطة .

وأما الاستئناس والإيناس : فهو مستحب لأمر الدين وذلك فيمن يستأنس بمشاهدة أحواله وأقواله في الدين ، وقد يتعلق بحظ النفس . ويستحب إذا كان الغرض منه ترويح القلب لتهييج دواعي النشاط في العبادة ، فإن القلوب إذا كربت عميت ، والنفس لا تألف الحق على الدوام ما لم تروح ، وفي تكليفها الملازمة داعية للفترة ، وقد قال " ابن عباس " : " لولا مخافة الوسواس لم أجالس الناس " فلا يستغني المعتزل إذن عن رفيق يستأنس بمشاهدته ومحادثته في اليوم والليلة ساعة ، فليجتهد في طلب من لا يفسد عليه في ساعته تلك سائر ساعاته ، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل " . وليحرص أن يكون حديثه عند اللقاء في أمور الدين والقصور عن الثبات على الحق ، ففي ذلك متروح للنفس وفيه مجال رحب لكل مشغول بإصلاح نفسه .

وأما نيل الثواب : فبحضور الجنائز وعيادة المرضى ، وحضور الجماعة في سائر الصلوات أيضا ، لا رخصة في تركه إلا لخوف ضرر ظاهر يقاوم ما يفوت من فضيلة الجماعة ويزيد عليه ، وذلك لا يتفق إلا نادرا . وكذلك في حضور الإملاكات والدعوات ثواب من حيث إنه إدخال سرور على قلب مسلم .

وأما إنالة الثواب : فهو أن يأذن بعيادته وتعزيته في المصائب وتهنئته على النعم فإنهم ينالون بذلك ثوابا . فينبغي أن يزن ثواب هذه المخالطات بآفاتها التي ذكرناها وعند ذلك قد ترجح العزلة وقد ترجح المخالطة .

وأما التواضع : فإنه من أفضل المقامات ولا يقدر عليه في الوحدة ، وقد يكون الكبر سببا في اختيار العزلة ، أو مخافة أن لا يوقر في المحافل أو لا يقدم ، أو يرى الترفع عن مخالطتهم أرفع لمحله وأبقى على اعتقاد الناس في تعبده وزهده ، وعلامة هؤلاء أنهم يحبون أن يزاروا ولا يحبون أن يزوروا ، ويفرحون بتقرب العوام والأمراء إليهم ، ولو كان الاشتغال بنفسه هو الذي يبغض إليه المخالطة وزيارة الناس لبغض إليه زياراتهم له ، ولكن اعتزاله سببه شدة اشتغاله بالناس لأن قلبه متجرد للالتفات إلى نظرهم إليه بعين الوقار والاحترام . والعزلة بهذا السبب جهل من وجوه :

أحدهما : أن التواضع والمخالطة لا تنقص عن منصب من هو متكبر بعلمه أو دينه .

الثاني : أن الذي شغل نفسه بطلب رضاء الناس عنه وتحسين اعتقادهم فيه مغرور ؛ لأنه لو عرف الله حق المعرفة علم أن الخلق لا يغنون عنه من الله شيئا وأن ضرره ونفعه بيد الله ، بل رضاء الناس غاية لا تنال ، فرضاء الله أولى بالطلب ، ولذلك قال الشافعي ليونس بن عبد الأعلى : " والله ما أقول لك إلا نصحا ، إنه ليس إلى السلامة من الناس من سبيل فانظر ماذا [ ص: 153 ] يصلحك فافعله " ، فإذن من حبس نفسه في البيت لتحسن اعتقادات الناس فيه فهو في عناء حاضر في الدنيا ، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون . وبالجملة فلا تستحب العزلة إلا لمستغرق الأوقات في علم بحيث لو خالطه الناس لضاعت أوقاته أو كثرت آفاته .

وأما التجارب : فإنها تستفاد من المخالطة للخلق ومجاري أحوالهم ، والعقل الغريزي ليس كافيا في تفهم مصالح الدين والدنيا وإنما تفيدها التجربة والممارسة ، ولا خير في عزلة من لم تحنكه التجارب ، فالصبي إذا اعتزل بقي غمرا جاهلا ، بل ينبغي أن يشتغل بالتعلم ويحصل له في مدة التعلم ما يحتاج إليه من التجارب ، ويحصل بقية التجارب بسماع الأحوال ، وبالجهل يحبط العمل الكثير ، وبالعلم يزكو العمل القليل ، ولولا ذلك ما فضل العلم على العمل . وقد قضى الشرع بتفضيل العالم على العابد حتى قال - صلى الله عليه وسلم - : " فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي " .

إذا عرفت ما تقدم من الفوائد والآفات يتبين لك الأفضل من المخالطة والعزلة ، وأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال .

التالي السابق


الخدمات العلمية