موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

صفحة جزء
بيان القدر الذي يجوز به الانتصار من الكلام :

اعلم أن كل ظلم صدر من شخص فلا يجوز مقابلته بمثله ، فلا تجوز مقابلة الغيبة بالغيبة ، ولا مقابلة التجسس بالتجسس ، ولا السب بالسب ، وكذلك سائر المعاصي ، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مقابلة التعيير فقال : " إن امرؤ عيرك بما فيك فلا تعيره بما فيه " .

وقال قوم : " تجوز المقابلة بما لا كذب فيه " ، قالوا : والنهي النبوي عن مقابلة التعيير بمثله نهي تنزيه ، والأفضل تركه ، ولكنه لا يعصى به ، قالوا : والذي يرخص فيه أن تقول : " من أنت ، ويا أحمق ، [ ص: 211 ] ويا جاهل " ، إذ ما أحد إلا وفيه حمق وجهل ، فقد آذاه بما ليس بكذب ، وكذلك قوله : " يا سيئ الخلق ، يا ثلابا للأعراض " ، وكان ذلك فيه ، وكذلك قوله : " لو كان فيك حياء لما تكلمت ، وما أحقرك في عيني بما فعلت " . واستدلوا بالحديث : " المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم . فأثبت للمظلوم انتصارا إلى أن يعتدي .

فهذا القدر هو الذي أباحه هؤلاء ، وهو رخصة في الإيذاء جزاء على إيذائه السابق . قال " الغزالي " : ولا تبعد الرخصة في هذا القدر ، ولكن الأفضل تركه ، فإنه يجره إلى ما وراءه ، ولا يمكنه الاقتصار على قدر الحق فيه ، والسكوت عن أصل الجواب لعله أيسر من الشروع في الجواب والوقوف على حد الشرع فيه ، ولكن من الناس من لا يقدر على ضبط نفسه في فورة الغضب ، ولكن يعود سريعا ، وفي الحديث : " خير بني آدم البطيء الغضب ، السريع الفيء ، وشرهم السريع الغضب ، البطيء الفيء " .

التالي السابق


الخدمات العلمية