موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

صفحة جزء
بيان فضيلة السخاء

اعلم أن المال إن كان مفقودا فينبغي أن يكون حال العبد القناعة وقلة الحرص ، وإن كان موجودا فينبغي أن يكون حاله الإيثار ، والسخاء ، واصطناع المعروف ، والتباعد عن الشح والبخل ، فإن السخاء من أخلاق الأنبياء - عليهم السلام - وهو أصل من أصول النجاة ، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه أحاديث كثيرة منها : " خلقان يحبهما الله تعالى : حسن الخلق والسخاء ، وخلقان يبغضهما : سوء الخلق والبخل ، وإذا أراد الله بعبد خيرا استعمله في قضاء حوائج الناس " .

وعنه - صلى الله عليه وسلم - : " إن من موجبات المغفرة : بذل الطعام ، وإفشاء السلام ، وحسن الكلام " .

وقال " أنس " : " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسأل شيئا على الإسلام إلا أعطاه ، وأتاه رجل فسأله ، فأمر له [ ص: 223 ] بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة ، فرجع إلى قومه فقال : يا قوم أسلموا ؛ فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة " .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : " إن السخي قريب من الله ، قريب من الناس ، قريب من الجنة ، بعيد من النار ، وإن البخيل بعيد من الله ، بعيد من الناس ، بعيد من الجنة ، قريب من النار ، وجاهل سخي أحب إلى الله من عالم بخيل ، وأدوأ الداء البخل " .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : " كل معروف صدقة ، وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة ، وما وقى به الرجل عرضه فهو له صدقة ، وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها " .

وقال - صلى الله عليه وسلم - : " كل معروف صدقة ، والدال على الخير كفاعله ، والله يحب إغاثة اللهفان " .

وعن " الحسن بن علي " : " الكرم هو التبرع بالمعروف قبل السؤال ، والإطعام في المحل ، والرأفة بالسائل ، مع بذل النائل " .

وعن " عبد الله بن جعفر " : " أمطر المعروف مطرا ، فإن أصاب الكرام كانوا له أهلا ، وإن أصاب اللئام كنت له أهلا " .

ومن سخاء السلف ما حكي أن " ابن عامر " اشترى دارا بتسعين ألف درهم ، فلما كان الليل سمع بكاء أهلها ، فسأل ، فقيل : " يبكون لدارهم " . فقال : " يا غلام ، إيتهم فأعلمهم أن المال والدار لهم جميعا " .

وكان " الليث بن سعد " لا يتكلم كل يوم حتى يتصدق على ثلاثمائة وستين مسكينا .

وعن " أسماء بن خارجة " أن " عبد الملك "سأله عن خصال حدث بها عنه ، فأجابه أسماء : " ما مددت رجلي بين يدي جليس لي قط ، ولا صنعت طعاما قط فدعوت عليه قوما إلا وكانوا أمن علي مني عليهم ، ولا نصب لي رجل وجهه قط يسألني شيئا فاستكثرت شيئا أعطيته إياه " .

وعن " الشافعي " أن " حماد بن أبي سليمان " انقطع زره وهو راكب ، فمر على [ ص: 224 ] خياط وأراد النزول ، فبادره الخياط وحلف عليه أن لا ينزل ، وأصلح له زره وهو راكب ، فأخرج له صرة فيها عشرة دنانير وسلمها له ، واعتذر إليه من قلتها .

قال " الشافعي " : " لا أزال أحب حمادا لما بلغني عنه " ، وأنشد الشافعي لنفسه :


يا لهف قلبي على مال أجود به على المقلين من أهل المروءات     إن اعتذاري إلى من جاء يسألني
ما ليس عندي من إحدى المصيبات



وعن " الربيع بن سليمان " قال : " أخذ رجل بركاب الشافعي رحمه الله ، فقال : يا ربيع ، أعطه أربعة دنانير واعتذر إليه عني " .

وقام رجل إلى " سعيد بن العاص " فسأله ، فأمر له بمائة ألف درهم ، فبكى ، فقال له " سعيد " : " ما يبكيك ؟ قال : أبكي على الأرض أن تأكل مثلك ، فأمر له بمائة ألف أخرى " .

وروي أن عليا كرم الله وجهه بكى ، فقيل : " ما يبكيك " ؟ فقال : " لم يأتني ضيف منذ سبعة أيام ، أخاف أن يكون الله قد أهانني " .

وروي أن رجلا أتى صديقا له ، فدق عليه الباب ، فقال : " ما جاء بك " ؟ قال : " علي أربعمائة درهم دين " ، فوزن أربعمائة درهم وأخرجها إليه وعاد يبكي ، فسألته امرأته ، فقال : " أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج إلى مفاتحتي " .

فرحم الله من هذه أخلاقهم وغفر لهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية