موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

صفحة جزء
بيان حد السخاء والبخل وحقيقتهما :

اعلم أن المال خلق لحكمة ، وهو صلاحه لحاجات الخلق ، فيمكن إمساكه عن صرفه إلى ما خلق الصرف إليه ، ويمكن بذله بالصرف إلى ما لا يحسن الصرف إليه ، ويمكن التصرف فيه بالعدل ، وهو أن يحفظ حيث يجب الحفظ ، ويبذل حيث يجب البذل ، فالإمساك حيث يجب البذل بخل ، والبذل حيث يجب الإمساك تبذير ، وبينها وسط هو المحمود ، وينبغي أن يكون السخاء والجود عبارة عنه ، إذ لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالسخاء ، وقد قيل : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ) [ الإسراء : 29 ] وقال تعالى : ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) [ الفرقان : 67 ] .

فالجود وسط بين الإسراف والإقتار ، وبين البسط والقبض ، وهو أن يقدر بذله وإمساكه بقدر الواجب ، ولا بد أن يكون قلبه طيبا به غير منازع له فيه ، ثم إن الواجب بذله قسمان : واجب بالشرع ، وواجب بالمروءة والعادة .

والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع ، ولا واجب المروءة ، فإن منع واحدا منهما فهو بخيل ، ولكن الذي يمنع واجب الشرع أبخل ، كالذي يمنع أداء الزكاة ، ويمنع عياله وأهله النفقة أو [ ص: 227 ] يؤديها ولكنه يشق عليه فإنه بخيل بالطبع ، أو الذي يتيمم الخبيث من ماله ، ولا يطيب قلبه أن يعطي من أطيب ماله أو من وسطه فهذا كله بخل .

ومن واجب المروءة ترك المضايقة والاستقصاء في المحقرات ، فإن ذلك مستقبح ، واستقباح ذلك يختلف بالأحوال والأشخاص ، فمن كثر ماله استقبح منه ما لا يستقبح من الفقير من المضايقة ، ويستقبح من الرجل المضايقة مع أهله وأقاربه ، ما لا يستقبح من الأجانب ، ويستقبح من الجار ما لا يستقبح من البعيد ، ويستقبح في الضيافة من المضايقة ما لا يستقبح في المعاملة .

وبالجملة فالبخيل هو الذي يمنع حيث ينبغي أن لا يمنع إما بحكم الشرع وإما بحكم المروءة ، ومن أدى واجب الشرع وواجب المروءة اللائقة به فقد تبرأ من البخل ، نعم لا يتصف بصفة الجود والسخاء ما لم يبذل زيادة على ذلك لطلب الفضيلة ونيل الدرجات ، فاصطناع المعروف وراء ما توجبه العادة والمروءة هو الجود ولكن بشرط أن يكون عن طيب نفس ، ولا يكون عن طمع ورجاء خدمة أو مكافأة أو شكر أو ثناء ، فإن من طمع في الشكر والثناء فهو بياع وليس بجواد فإنه يشتري المدح بماله ، ومثله من يبعثه عليه الخوف من الهجاء أو ملامة الخلق فإنه ليس من الجود ; لأنه مضطر إليه بهذه البواعث وهي أعواض معجلة له عليه فهو معتاض لا جواد .

التالي السابق


الخدمات العلمية