موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

صفحة جزء
موضع الرجاء المحمود :

فإن قلت : فأين موضع الرجاء المحمود ؟ فاعلم أنه محمود في موضعين :

أحدهما : في حق العاصي المنهمك إذا خطرت له التوبة فقال له الشيطان : " وأنى تقبل توبتك " ؟ فيقنطه من رحمة الله تعالى ، فيجب عند هذا أن يقمع القنوط بالرجاء ، ويتذكر أن الله يغفر الذنوب جميعا ، وأن الله كريم يقبل التوبة عن عباده ، وأن التوبة طاعة تكفر الذنوب ، قال تعالى : ( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ) [ طه : 82 ] فإذا توقع المغفرة مع التوبة فهو راج ، وإن توقع المغفرة مع الإصرار فهو مغرور .

الثاني : أن تفتر نفسه عن فضائل الأعمال ويقتصر على الفرائض فيرجي نفسه نعيم الله تعالى وما وعد به الصالحين حتى ينبعث من الرجاء نشاط العبادة فيقبل على الفضائل ويتذكر [ ص: 260 ] قوله تعالى : ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) [ المؤمنون 1 ، 2 ] الآيات .

فالرجاء الأول يقمع القنوط المانع من التوبة ، والرجاء الثاني يقمع الفتور المانع من النشاط والتشمر ، فكل توقع حث على توبة أو على تشمر في العبادة فهو رجاء ، وكل رجاء أوجب فتورا في العبادة وركونا إلى البطالة فهو غرة . كما إذا خطر له أن يترك الذنب ويشتغل بالعمل ففتره الشيطان عن التوبة والعبادة وقال له : " لك رب كريم " فهذا غرة ، وعند هذا يجب أن يستعمل الخوف فيخوف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه ، ويقول : إنه ، مع أنه غافر الذنب وقابل التوب ، شديد العقاب ، وإنه مع أنه كريم خلد الكفار في النار أبد الآباد ، وقد خوفني عقابه فكيف لا أخافه وكيف أغتر به .

فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل ، فما لا يبعث على العمل فهو تمن وغرور ، ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم وسبب إقبالهم على الدنيا ، وسبب إعراضهم عن الله تعالى ، وإهمالهم السعي للآخرة ، فذلك غرور ، وقد كان السلف يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات والشهوات ، ويبكون على أنفسهم في الخلوات ، وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين غير خائفين مع إكبابهم على المعاصي ، وانهماكهم في الدنيا ، وإعراضهم عن الله تعالى زاعمين أنهم واثقون بكرم الله وعفوه كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون ; فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى وينال بالهوينا فعلى ماذا كان بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم ؟! وقد قال تعالى : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) [ الرحمن : 46 ] ( ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد ) [ إبراهيم : 14 ] . والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف لا يتفكر فيه متفكر إلا ويطول حزنه ويعظم خوفه إن كان مؤمنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية