موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

صفحة جزء
بيان أن التوبة الصحيحة مقبولة :

اعلم أن التوبة إذا استجمعت شرائطها فهي مقبولة لا محالة ، فإن نور الحسنة يمحو عن وجه القلب ظلمة السيئة كما لا طاقة لظلام الليل مع بياض النهار ، وكما أن استعمال الثواب في الأعمال الخسيسة يوسخ الثوب وغسله بالصابون والماء الحار ينظفه لا محالة ، فاستعمال القلب في الشهوات يوسخ القلب ، وغسله بماء الدموع وحرقة الندم ينظفه ويطهره ويزكيه ، وكل قلب زكي طاهر فهو مقبول كما أن كل ثوب نظيف هو مقبول ، فإنما عليك التزكية والتطهير ، وأما القبول فمبذول قد سبق به القضاء الأزلي الذي لا مرد له ، وهو المسمى فلاحا في قوله : ( قد أفلح من زكاها ) [ الشمس : 9 ] .

فمن يتوهم أن التوبة تصح ولا تقبل كمن يتوهم أن الشمس تطلع والظلام لا يزول والثوب يغسل بالصابون والوسخ لا يزول ، إلا أن يغوص الوسخ لطول تراكمه في تجاويف الثوب فلا يقوى الصابون على قلعه ، فمثال ذلك أن تتراكم الذنوب حتى تصير طبعا ورينا على القلب ، فمثل هذا القلب لا يرجع ، ولا يتوب . نعم قد يقول باللسان : تبت فيكون ذلك كقول القصار بلسانه : قد غسلت الثوب وذلك لا ينظف الثوب أصلا ما لم يغير صفة الثوب باستعمال ما يضاد الوصف المتمكن به . فهذا حال امتناع أصل التوبة ، وهو غير بعيد ، بل هو الغالب على كافة الخلق المقبلين على الدنيا المعرضين عن الله بالكلية .

هذا البيان كاف عند ذوي البصائر في قبول التوبة ، ولكنا نعضد جناحه ببعض آيات وأخبار ، فكل استبصار لا يشهد له الكتاب والسنة لا يوثق به . قال تعالى : ( غافر الذنب وقابل التوب ) [ غافر : 3 ] وقال سبحانه : ( وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ) [ الشورى : 25 ] وقال صلى الله عليه وسلم : " إن الله عز وجل يبسط يده بالتوبة لمسيء الليل إلى النهار ، ولمسيء النهار إلى الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " وبسط اليد كناية عن طلب التوبة ، وقال صلى الله عليه وسلم : " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " .

بيان ما تكون عنه التوبة وهي الذنوب :

اعلم أن التوبة ترك الذنب ، ولا يمكن ترك الشيء إلا بعد معرفته ، وإذا كانت التوبة [ ص: 273 ] واجبة كان ما لا يتوصل إليها إلا به واجبا ، فمعرفة الذنوب إذا واجبة ، والذنب عبارة عن كل ما هو مخالف لأمر الله - تعالى - في ترك أو فعل . ثم إن مثارات الذنوب تنحصر في أربع صفات : صفات ربوبية ، وصفات شيطانية ، وصفات بهيمية ، وصفات سبعية .

فأما ما يقتضي النزوع إلى الصفات الربوبية فمثل الكبر والفخر وحب المدح والثناء وحب دوام البقاء ، وطلب الاستعلاء على الكافة حتى كأنه يريد أن يقول : " أنا ربكم الأعلى " وهذا يتشعب منه جملة من كبائر الذنوب غفل عنها الخلق ولم يعدوها ذنوبا ، وهي المهلكات العظيمة التي هي كالأمهات لأكثر المعاصي .

الثانية : هي الصفة الشيطانية التي منها يتشعب الحسد والبغي والحيلة والخداع والأمر بالفساد والمنكر ، وفيه يدخل الغش والنفاق ، والدعوة إلى البدع والضلال .

الثالث : الصفة البهيمية ، ومنها يتشعب الشره والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج ، ومنه يتشعب الزنا واللواط والسرقة وأكل مال الأيتام وجمع الحطام لأجل الشهوات .

الرابعة : الصفة السبعية ، ومنها يتشعب الغضب والحقد والتهجم على الناس بالضرب والشتم والقتل واستهلاك الأموال ، ويتفرع عنها جمل من الذنوب .

فهذه أمهات الذنوب ومنابعها ، ثم تتفجر الذنوب من هذه المنابع على الجوارح ، فبعضها في القلب خاصة كالكفر والبدعة والنفاق وإضمار السوء للناس ، وبعضها على العين والسمع ، وبعضها على اللسان ، وبعضها على البطن والفرج ، وبعضها على اليدين والرجلين ، وبعضها على جميع البدن ، ولا حاجة إلى بيان تفصيل ذلك فإنه واضح .

التالي السابق


الخدمات العلمية