موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

صفحة جزء
تمام التوبة وشروطها ودوامها

ذكرنا أن التوبة عبارة عن ندم يورث عزما وقصدا ، فالندم هو توجع القلب عند شعوره بفوات المحبوب ، وعلامته طول الحسرة والحزن وإسكاب الدمع ، والفكر ، فمن استشعر عقوبة نازلة بولده طال عليه مصيبته وبكاؤه ، وأي عزيز أعز عليه من نفسه ؟ وأي عقوبة أشد من النار ؟ وأي سبب أدل على نزول العقوبة من المعاصي ؟ وأي مخبر أصدق من الله ورسوله ؟ ولو حدثه إنسان واحد يتطبب أن مرض ولده لا يبرأ وأنه سيموت منه لطال في الحال حزنه ، فليس ولده بأعز من نفسه ، ولا الطبيب بأعلم ولا أصدق من الله ورسوله ، ولا الموت بأشد من النار ، ولا المرض بأدل على الموت من المعاصي على سخط الله - تعالى - والتعرض بها إلى النار . فألم الندم كلما كان أشد كان تكفير الذنوب به أرجى ، فعلامة صحة الندم رقة القلب وغزارة الدمع ، ومن علامته أن تتمكن مرارة تلك الذنوب في قلبه بدلا من حلاوتها ، فيستبدل بالميل كراهية وبالرغبة نفرة كمن ينفر عن عسل فيه سم ولو كان في غاية الجوع والشهوة للحلاوة ، فوجدان التائب مرارة الذنب كذلك يكون ، وذلك لعلمه بأن كل ذنب فذوقه ذوق العسل وعمله عمل السم ، ولا تصح التوبة ولا تصدق إلا بمثل هذا الإيمان ؛ ولما عز مثل هذا الإيمان عزت التوبة والتائبون ، فلا ترى إلا معرضا عن الله - تعالى - متهاونا بالذنوب مصرا عليها . فهذا شرط تمام الندم ، وينبغي أن يدوم إلى الموت وينبغي أن يجد هذه المرارة في جميع الذنوب .

وأما القصد الذي ينبعث منه وهو إرادة التدارك فله تعلق بالحال وهو يوجب ترك محظور هو ملابس له ، وأداء كل فرض هو متوجه عليه في الحال ، وله تعلق بالماضي وهو تدارك ما [ ص: 276 ] فرط ، وبالمستقبل وهو دوام الطاعة ودوام ترك المعصية إلى الموت .

ومن أهم ما يجب تداركه الحقوق المالية ، فمن تناول مالا بغصب أو خيانة أو غبن في معاملة بنوع تلبيس كترويج زائف أو ستر عيب من المبيع أو نقص أجرة أجير أو أكل أجرته ، فكل ذلك يجب أن يفتش عنهم ليستحلهم أو ليؤدي حقوقهم لهم أو لورثتهم ، وليحاسب نفسه على الحبات والدوانق قبل أن يحاسب في القيامة ، وليناقش قبل أن يناقش ، فمن لم يحاسب نفسه في الدنيا طال في الآخرة حسابه ، فإن عجز فلا يبقى له طريق إلا أن يكثر من الحسنات بقدر كثرة مظالمه ، فهذا طريق كل تائب في رد المظالم الثابتة في ذمته . وأما أمواله الحاضرة فليرد إلى المالك ما يعرف له مالكا معينا ، وما لا يعرف له مالكا فعليه أن يتصدق به ، فإن اختلط الحلال بالحرام فعليه أن يعرف قدر الحرام بالاجتهاد ويتصدق بذلك المقدار .

وأما الجناية على القلوب بمشافهة الناس بما يسوؤهم أو بعيبهم في الغيبة ، فليطلب كل من تعرض له بلسانه أو آذى قلبه بفعل من أفعاله ، فمن وجده وأحله بطيب قلب منه فذلك كفارته ، ومن مات أو غاب أو تعذر استحلاله فقد فات أمره ولا يتدارك إلا بتكثير الحسنات .

ومن مهمات التائب إذا لم يكن عالما أن يتعلم ما يجب عليه في المستقبل وما يحرم عليه حتى يمكنه الاستقامة .

التالي السابق


الخدمات العلمية