موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

صفحة جزء
[ ص: 289 ] كتاب الخوف والرجاء

الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود ، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كؤود ، فلا يقود إلى قرب الرحمن إلا أزمة الرجاء ، ولا يصد عن نار الجحيم إلا سياط التخويف . فلا بد إذا من بيان حقائقهما .

بيان حقيقة الرجاء

قد علم أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة ، والقلب كالأرض ، والإيمان كالبذر فيه ، والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها ، ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها ، والقلب المستهتر بالدنيا المستغرق بها كالأرض السبخة التي لا ينمو فيها البذر ، ويوم القيامة يوم الحصاد ، ولا يحصد إلا ما زرع ، ولا ينمو زرع إلا من بذر الإيمان ، وقلما ينفع إيمان مع خبث القلب وسوء أخلاقه كما لا ينمو بذر في أرض سبخة ، فينبغي أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء صاحب الزرع ، فكل من طلب أرضا طيبة وألقى فيها بذرا جيدا غير عفن ولا مسوس ثم أمده بما يحتاج إليه وهو سوق الماء إليه في أوقاته ، ثم نقى الشوك عن الأرض والحشيش وكل ما يمنع نبات البذر أو يفسده ، ثم جلس منتظرا من فضل الله - تعالى - دفع الصواعق والآفات المفسدة إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته ، سمي انتظاره رجاء ، وإن بث البذر في أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصب إليها الماء ولم يشتغل بتعهد البذر أصلا ثم انتظر الحصاد منه ، سمي انتظاره حمقا وغرورا ، لا رجاء ، وإن بث البذر في أرض طيبة لكن لا ماء لها وأخذ ينتظر مياه الأمطار حيث لا تغلب الأمطار ولا تمتنع أيضا ، سمي انتظاره تمنيا لا رجاء .

فإذن اسم الرجاء إنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت جميع أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد ولم يبق إلا ما ليس يدخل تحت اختياره ، وهو فضل الله - تعالى - بصرف القواطع والمفسدات . فالعبد إذا بث بذر الإيمان وسقاه بماء الطاعات وطهر القلب عن شوك الأخلاق الرديئة وانتظر من فضل الله - تعالى - تثبيته على ذلك إلى الموت ، وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة ، كان انتظاره رجاء حقيقيا محمودا في نفسه باعثا له على المواظبة والقيام بمقتضى أسباب الإيمان في إتمام [ ص: 290 ] أسباب المغفرة إلى الموت ، وإن قطع عن بذر الإيمان تعهده بماء الطاعات ، أو ترك القلب مشحونا برذائل الأخلاق وانهمك في طلب لذات الدنيا ثم انتظر المغفرة فانتظاره حمق وغرور ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " الأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله " وقال - تعالى - : ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا ) [ مريم : 59 ] وقال - تعالى - : ( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا ) [ الأعراف : 169 ] وذم الله - تعالى - صاحب البستان إذ دخل جنته وقال : ( ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ) [ الكهف : 35 و 36 ] فإذن العبد المجتهد في الطاعات المجتنب للمعاصي حقيق بأن ينتظر من فضل الله تمام النعمة ، وما تمام النعمة إلا بدخول الجنة ، وأما العاصي فإذا تاب وتدارك جميع ما فرط منه من تقصير فحقيق بأن يرجو قبول التوبة ، وإنما الرجاء بعد تأكد الأسباب ، ولذلك قال - تعالى - : ( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله ) [ البقرة : 218 ] معناه : أولئك يستحقون أن يرجوا رحمة الله ، وقال - تعالى - : ( إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ) [ فاطر : 29 ] فأما من ينهمك فيما يكرهه الله - تعالى - ولا يذم نفسه عليه ولا يعزم على التوبة والرجوع فرجاؤه المغفرة حمق كرجاء من بث البذر في أرض سبخة وعزم على أن لا يتعهده بسقي ولا تنقية ، قال " يحيى بن معاذ " : "من أعظم الاغترار عندي التمادي في الذنوب على رجاء العفو من غير ندامة ، وتوقع القرب من الله - تعالى - بغير طاعة ، وانتظار زرع الجنة ببذر النار ، وطلب دار المطيعين بالمعاصي ، وانتظار الجزاء بغير عمل والتمني على الله عز وجل مع الإفراط " .


ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس

فإذن حال الرجاء يورث طول المجاهدة بالأعمال والمواظبة على الطاعات كيفما تقلبت الأحوال .

ومن آثاره التلذذ بدوام الإقبال على الله - تعالى - والتنعم بمنجاته والتلطف في التملق له ، فإن هذه الأحوال لا بد وأن تظهر على كل من يرجو ملكا من الملوك أو شخصا من الأشخاص ، فكيف لا يظهر ذلك في حق الله - تعالى - فإن كان لا يظهر فليستدل به على الحرمان عن مقام الرجاء والنزول في حضيض الغرور والتمني .

التالي السابق


الخدمات العلمية