موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

صفحة جزء
آية الأرض

من آياته تعالى أن خلق الأرض فراشا ومهادا ، وسلك فيها سبلا فجاجا ، وجعلها ذلولا لتمشوا في مناكبها ، وجعلها قارة لا تتحرك ، وأرسى فيها الجبال أوتادا لها تمنعها من أن تميد ، ثم وسع أكنافها حتى عجز الآدميون عن بلوغ جميع جوانبها . وقد أكثر تعالى في كتابه العزيز من ذكر الأرض ليتفكر في عجائبها ، فظهرها مقر الأحياء ، وبطنها مرقد الأموات ، قال الله تعالى : ( ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء ‎وأمواتا ) [ المرسلات : 25 ، 26 ] فانظر إلى الأرض وهي ميتة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت واخضرت وأنبتت عجائب النبات [ الحج : 5 ] وخرجت منها أصناف الحيوانات ، ثم انظر كيف أحكم جوانب الأرض بالجبال الراسيات الشوامخ الصم الصلاب ، وكيف أودع المياه تحتها ففجر العيون وأسال الأنهار تجري على وجهها ، وأخرج من الحجارة اليابسة ومن التراب الكدر ماء رقيقا صافيا زلالا ، وجعل به كل شيء حي [ الأنبياء : 30 ] فأخرج به فنون الأشجار والنبات من حب وعنب وقضب وزيتون [ ص: 317 ] ونخل ورمان وفواكه كثيرة لا تحصى مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والصفات والروائح يفضل بعضها على بعض في الأكل ، تسقى بماء واحد وتخرج من أرض واحدة . فإن قلت : " إن اختلافها باختلاف بذورها وأصولها " فمتى كان في النواة نخلة مطوقة بعناقيد الرطب ؟ ومتى كان في حبة واحدة سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ؟ ثم انظر إلى أرض البوادي وفتش ظاهرها وباطنها فتراها ترابا متشابها ، فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ألوانا مختلفة ونباتا متشابها وغير متشابه ، لكل واحد طعم وريح ولون وشكل يخالف الآخر ، فانظر إلى كثرتها واختلاف أصنافها وكثرة أشكالها ، ثم اختلاف طبائع النبات وكثرة منافعه ، وكيف أودع الله تعالى العقاقير المنافع الغريبة : فهذا النبات يغذي ، وهذا يقوي ، وهذا يحيي ، وهذا يقتل ، وهذا يبرد ، وهذا يسخن ، وهذا يفرح ، وهذا ينوم ، فلم تنبت من الأرض ورقة ولا نبتة إلا وفيها منافع لا يقوى البشر على الوقوف على كنهها . وكل واحد من هذا النبات يحتاج الفلاح في تربيته إلى عمل مخصوص . ولو أردنا أن نذكر اختلاف أجناس النبات وأنواعه ومنافعه وأحواله وعجائبه لانقضت الأيام في وصف ذلك فيكفيك من كل نبذة يسيرة تدل على طريق الفكر . فهذه عجائب النبات .

التالي السابق


الخدمات العلمية