موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين

القاسمي - محمد جمال الدين القاسمي

صفحة جزء
القول في أهوال جهنم وقانا الله عذابها

يا أيها الغافل عن نفسه ، المغرور بما هو فيه من شواغل هذه الدنيا المشرفة على الانقضاء والزوال ، دع التفكر فيما أنت مرتحل عنه . واصرف الفكر إلى موردك ، فإنك أخبرت بأن النار مورد للجميع إذ قال سبحانه : ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ) [ مريم : 71 ، 72 ] فأنت من الورود على يقين ، ومن النجاة في شك ، فاستشعر في قلبك هول ذلك المورد فعساك تستعد للنجاة منه ، وتأمل في حال الخلائق وقد قاسوا من دواهي القيامة ما قاسوا ، فبينما هم في كربها وأهوالها وقوفا ينتظرون حقيقة أنبائها وتشفيع شفعائها إذ أحاطت بالمجرمين ظلمات ذات شعب وأظلت عليهم نار ذات لهب وسمعوا لها زفيرا يفصح عن شدة الغيظ والغضب ، فعند ذلك أيقن المجرمون بالعطب ، وجثت الأمم على الركب . حتى أشفق البرآء من سوء المنقلب ، فهناك تسوق الزبانية المجرم إلى العذاب الشديد وينكسونه في قعر الجحيم ، ويقولون له ذق إنك أنت العزيز الكريم ، فأسكنوا دارا يخلد فيها الأسير ، ويوقد فيها السعير : وشرابهم فيها الحميم ، ومستقرهم الجحيم . شدت أقدامهم إلى النواصي ، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي ، ينادون من أكنافها ويصيحون في نواحيها وأطرافها . يا مالك قد نضجت منا الجلود . يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود . فتقول الزبانية : هيهات لات حين أمان ، ولا خروج لكم من دار الهوان ، فاخسئوا فيها ولا تكلمون ، ولو أخرجتم منها لكنتم إلى ما نهيتم عنه تعودون . فعند ذلك يقنطون ، وعلى ما فرطوا في جنب الله يتأسفون . ولا ينجيهم الندم ولا يغنيهم الأسف ، يدعون بالويل والثبور ، وتغلي بهم النار كغلي القدور ، وتهشم بمقامع الحديد جباههم ، فينفجر الصديد من أفواههم ، وهم مع ذلك يتمنون الموت فلا يموتون ، فكيف لو نظرت إليهم قد اسودت وجوههم أشد سوادا من الحميم ، وأعميت أبصارهم ، وأبكمت ألسنتهم ، وكسرت عظامهم ، ومزقت جلودهم ، ولهيب النار سار في بواطن أجزائهم ، وحيات الهاوية وعقاربها متشبثة بظواهر أعضائهم . هذا بعض [ ص: 329 ] جملة أحوالهم ، وانظر إلى تفاوت الدركات ، فإن الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ، فكما أن إكباب الناس على الدنيا يتفاوت ، فمنهم منهمك مستكثر كالغريق فيها ، ومن خائض فيها إلى حد محدود ، فكذلك تناول النار لهم متفاوت ، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة ، فلا تترادف أنواع العذاب على كل من في النار كيفما كان ، بل لكل واحد حد معلوم على قدر عصيانه وذنبه ، إلا أن أقلهم عذابا لو عرضت عليه الدنيا لافتدى بها من شدة ما هو فيه . فيا لحسرة هؤلاء وقد بلوا بما بلوا به ولم يبق معهم شيء من الدنيا ولذاتها .

فانظر يا مسكين في هذه الأهوال ، والعجب منك حيث تضحك وتلهو وتشتغل بمحقرات الدنيا ولست تدري بماذا سبق القضاء في حقك ( فإن قلت ) فليت شعري ماذا موردي ، وإلى ماذا مآلي ومرجعي ، وما الذي سبق به القضاء في حقي ، فلك علامة تستأنس بها وتصدق رجاءك بسببها ، وهو أن تنظر إلى أحوالك وأعمالك فإن كلا ميسر لما خلق له ، فإن كان قد يسر لك سبيل الخيرات فأبشر فإنك مبعد عن النار ، وإن كنت لا تقصد خيرا إلا وتحيط بك العوائق فتدفعه ولا تقصد شرا إلا ويتسير لك أسبابه ، فاعلم أنك مقضي عليك ، فإن دلالة هذا على العاقبة كدلالة المطر على النبات ودلالة الدخان على النار ، فقد قال الله تعالى : ( إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم ) [ الانفطار : 13 و 14 ] فاعرض نفسك على الآيتين وقد عرفت مستقرك من الدارين .

التالي السابق


الخدمات العلمية