صفحة جزء
إذا تقرر ذلك فنعود إلى مسألتنا فنقول : من ذهب إلى أن الشعر لا ينجس بالموت ، بل هو باق على طهارته وهم أكثر الأئمة كما تقدم ، فلا إشكال على مذهبه ، وكذا من ذهب إلى أنه ينجس بالموت ويطهر بالغسل ، وأما من قال بنجاسته بالموت وأنه لا يطهر بالغسل ، وهو الشافعي رضي الله عنه في أول قوليه ، وهو المشهور من مذهبه فهل يطهر الشعر عنده بالدباغ تبعا للجلد ، أو لا ؟ فيه قولان مشهوران عن الشافعي .

قال صاحب المهذب : فإن دبغ جلد الميتة وعليه شعر قال في الأم : لا يطهر الشعر ; لأن الدباغ لا يؤثر فيه ، وروى الربيع بن سليمان الجيزي عنه أنه يطهر ; لأنه شعر نابت على جلد ، فهو كالجلد في الطهارة كشعر الحيوان في حال الحياة ، قال النووي في شرح المهذب : هذان القولان للشافعي مشهوران ، وأصحهما عند الجمهور نصه في الأم أنه لا يطهر ، وممن صححه من المصنفين أبو القاسم الصيمري ، والشيخ أبو محمد الجويني ، والبغوي ، والشاشي ، والرافعي ، وقطع به الجرجاني في التحرير قال : وصحح الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، والروياني طهارته قال الروياني : لأن الصحابة في زمن عمر رضي الله عنه قسموا الفراء المغنومة من الفرس ، وهي ذبائح مجوس واستدل من صحح القول الأول بحديث أسامة السابق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع ، وروى أبو داود ، والنسائي بإسناد حسن عن المقدام بن معد يكرب أنه قال لمعاوية : أنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها ؟ قال : نعم ، وروى أبو داود عن معاوية أنه قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوب جلود النمور ؟ قالوا : نعم .

قال الأصحاب : يستدل بهذه الأحاديث على أن الشعر لا يطهر بالدباغ ; لأن النهي متناول لما بعد الدباغ وحيث لا يجوز أن يكون النهي عائدا إلى نفس الجلد ، فإنه طاهر بالدباغ بالدلائل السابقة ، فهو عائد إلى الشعر ، هذا ما في شرح المهذب ، وأقول : الذي يترجح عندي بالنظر في الأدلة ما رجحه الإسفراييني والروياني من طهارة الشعر بالدباغ .

وقد رجحه أيضا العبادي ، وقال : عليه تدل الآثار ، وصححه من المتأخرين ابن أبي عصرون في المرشد لعموم البلوى به : والشيخ تقي الدين السبكي قال ولده في التوشيح : صحح ابن أبي عصرون طهارة الشعر بالدباغ قال الوالد في مجاميعه : وهو الذي اختاره وأفتى به للحديث ، وقال : [ ص: 20 ] وقد قيل : إن الشعر لا ينجس بالموت ، قلت : ومن الأدلة على ما اخترته ما أخرجه مسلم في صحيحه من طريق أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني قال : رأيت على ابن أبي وعلة السبائي فروا فمسسته ، فقال : ما لك تمسه ؟ قد سألت عبد الله ابن عباس قلت : أنا نكون بالمغرب ومعنا البربر والمجوس نؤتى بالكبش قد ذبحوه ، ونحن لا نأكل ذبائحهم ، ويأتون بالسقاء يجعلون فيه الودك ، فقال ابن عباس : قد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : دباغه طهوره .

وأخرج الدارقطني من طريق الوليد بن مسلم ، عن أخيه عبد الجبار بن مسلم عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : إنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الميتة لحمها ، فأما الجلد والشعر والصوف ، فلا بأس به ، ورجاله على شرط الصحيح إلا عبد الجبار ، فإنه ضعيف .

وأصل الحديث في الصحيح من وجه آخر عن الزهري مختصرا بلفظ : إنما حرم من الميتة لحمها . دون بقية الحديث ، ولم ينفرد عبد الجبار ، بل توبع ، فأخرجه الدارقطني ، والبيهقي من طريق شبابة عن أبي بكر الهذلي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : إنما حرم من الميتة ما يؤكل منها ، وهو اللحم ، فأما الجلد ، والشعر ، والصوف ، فهو حلال .

وأخرجه الدارقطني أيضا من طريق زافر بن سليمان عن أبي بكر الهذلي به ، وأخرجه أيضا من وجه آخر عن زافر بن سليمان عن أبي بكر الهذلي أن الزهري حدثهم عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه ألا كل شيء من الميتة حلال إلا ما أكل منها ، فأما الجلد والفرو والشعر والصوف فكل هذا حلال ; لأنه لا يذكى ، وله شاهد أخرجه البيهقي من طريق يوسف بن السعد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : سمعت أم سلمة تقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا بأس بمسك الميتة إذا دبغ ، ولا بصوفها وشعرها إذا غسل بالماء .

وله شاهد ثان أخرجه البيهقي عن عبد الله بن قيس البصري أنه سمع ابن مسعود يقول : إنما حرم من الميتة لحمها ودمها .

وشاهد ثالث أخرجه البيهقي من طريق أبي وائل عن عمر بن الخطاب أنه قال في الفراء : ذكاته دباغه ، وشاهد رابع أخرجه أحمد ، والبيهقي من طريق ثابت البناني قال : كنت جالسا مع عبد الرحمن بن أبي [ ص: 21 ] ليلى فأتاه ذو ضفرتين ، فقال : يا أبا عيسى حدثني ما سمعت من أبيك في الفراء قال : حدثني أبي أنه كان جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل ، فقال : يا رسول الله ، أصلي في الفراء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأين الدباغ . قال ثابت : فلما ولى قلت : من هذا ؟ قال : سويد بن غفلة ؟ .

وشاهد خامس أخرجه أبو الشيخ بن حبان ، والبيهقي عن أنس بن مالك قال : كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له رجل : يا رسول الله ، كيف ترى في الصلاة في الفراء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأين الدباغ .

وروى البيهقي أيضا عن قتادة قال : سأل داود السراج الحسن عن جلود النمر والسمور تدبغ بالملح قال : دباغها طهورها .

فهذه أحاديث وآثار صريحة في الحكم من غير معارض صريح ، حديث آخر أخرج الترمذي ، وابن ماجه ، والحاكم في المستدرك عن سلمان الفارسي قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجبن والفراء ، فقال : الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه ، وما سكت عنه ، فهو مما عفي عنه - هذا الحديث بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم صريح في إباحة الفراء كما هو نص استدلوا به في إباحة الجبن ، ولهذا بوب عليه الترمذي ( باب لبس الفراء ) ، وإنما وقع السؤال عن هذين بخصوصهما لما قد يتوهم من نجاستهما لما في الجبن من الإنفحة ، ولكون الفراء من ميتة ، ولو كان المراد الفراء المذكاة لم يحسن السؤال عنها للعلم بطهارتها قطعا ، وقد أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما معا بأنهما مما عفا الله عنه .

ولهذا الحديث شاهد موقوف على سلمان ، وأخرج عن الحسن مرسلا ، قال الترمذي : وفي الباب عن المغيرة يشير إلى أن للحديث شاهدا من حديث المغيرة وله شاهد آخر عن أنس أخرج الطبراني في الأوسط عن راشد الحماني قال : رأيت أنس بن مالك عليه فرو أحمر ، فقال : كانت لحفنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نلبسها ونصلي فيها ، رجال إسناده ثقات إلا أحمد بن القاسم ، فهذا أيضا من الأدلة ، ولو كان الفرو الذي رآه على أنس من مذكى لم يكن محل إنكار حتى احتاج أنس إلى الاستدلال على طهارتها بأنهم كانوا يلبسونها ويصلون فيها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأصل حديث سلمان شاهد صحيح من حديث أبي الدرداء .

أخرج البزار في مسنده ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في تفسيرهما ، والطبراني في الكبير ، والحاكم في المستدرك ، وصححه وأقره الذهبي في مختصره ، وابن مردويه في تفسيره عن أبي الدرداء رفع الحديث قال : ما أحل الله في كتابه ، فهو حلال ، وما حرم ، فهو حرام ، وما سكت عنه ، فهو عافية فاقبلوا من الله عافيته ، ونحن لا نقول : إنه يفيدها في الشعر قصدا ، وإنما يفيدها تبعا للجلد بدلالة الحديث ، [ ص: 22 ] فإن الله لم يكن لينسى شيئا ، ثم تلا ( وما كان ربك نسيا ) ، وشاهد آخر من حديث جابر .

أخرج ابن مردويه عن جابر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك : يا كعب ، ما أحل ربك ، فهو حلال ، وما حرم ، فهو حرام ، وما سكت عنه ، فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته ( وما كان ربك نسيا ) .

وله شاهد آخر من حديث أبي ثعلبة ويؤيد أن سؤالهم في حديث سلمان عن الجبن ; لأجل ما فيه من الإنفحة ، وعن الفراء ; لأجل كونه من ميتة ما رواه سعيد بن منصور في سننه عن عمرو بن شرحبيل . قال : ذكرنا الجبن عند عمر بن الخطاب فقلنا : إنه يصنع فيه أنافح الميتة ، فقال عمر : سموا الله عليه ، وكلوا .

وروى سعيد أيضا عن الشعبي قال : أتي النبي صلى الله عليه وسلم بجبنة في غزوة تبوك فقيل : إن هذه من صنعة المجوس ، فقال : ( اذكروا اسم الله ، وكلوا ) .

وروى سعيد أيضا عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث قال : دخلت مع أبي علي بن عباس ، فقال له : إنه يصنع لنا بالعراق من هذا الجبن ، وقد بلغني أنه يصنع فيه من أنافح الميتة ، فقال ابن عباس : ما علمت أنه من أنافح الميتة ، فلا تأكله ، وما لم تعلم فكله ، قال له أبي : وإنه يصنع لنا من هذه الفراء وبلغني أنها تصنع من جلود الميتة ، فقال ابن عباس : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( دباغ كل أديم ذكاته ) .

ورواه الدولابي في الكنى عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث قال : قلت لابن عباس : الفراء تصنع من جلود الميتة ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ذكاة كل مسك دباغه ) ، فهذا أيضا صريح في أن الدباغ يطهر الفراء مطلقا جلدا ، أو شعرا .

ومما يستدل به لطهارة الشعر بالدباغ إطلاق الأحاديث السابقة في دباغ إهاب الشاة ، فإنه لو كان الشعر لا يطهر بالدباغ لبين لهم ذلك ، وقال : انزعوا شعرها وادبغوا الجلد وانتفعوا به وحده ; لأنه محل بيانوتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز ، فلما أطلق ولم يفصل ، دل على أن الشعر يطهر بالدباغ تبعا للجلد ومما يستدل به لذلك قوله تعالى : ( والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ) وقول الأصحاب : إن هذه الآية محمولة على شعر المأكول إذا ذكي وأخذ في حياته يجاب عنه بأن الآية خوطب بها المشركون من أهل مكة ، ولهذا قيل في أواخر تعداد النعم ( كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ) ، وقد كان المشركون يذبحون للأصنام ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة يتوقف [ ص: 23 ] في أكل ذبائحهم فكانت ذبائحهم ميتة ، وقد وردت الآية امتنانا عليهم بالانتفاع بشعورها فدل على أن الدباغ طهرها ، وقول بعض الفقهاء إن ( من ) في الآية للتبعيض ، والمراد البعض الطاهر ينازع فيه بأن ( من ) هذه ليست هي التبعيضية ، بل هي التجريدية كما يفهمه من له خبرة بعلم البيان ، وكذلك هي في الجملتين الأوليين في الآية فهي كالمثال الذي يمثل به أرباب البيان ، وهو قولهم لي : من فلان صديق حميم ، أي أن فلانا نفسه صديق حميم ، وليس المراد أن بعضه صديق ، وهذا معروف يسمى بالتجريد عند علماء البلاغة .

التالي السابق


الخدمات العلمية