صفحة جزء
[ ص: 239 ] 25 - القول المضي في الحنث في المضي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى . وبعد ، فقد تكرر السؤال عمن حلف أنه فعل كذا أو لم يفعله ، أو كان كذا أو لم يكن ، ناسيا أو جاهلا ، ثم تبين خلاف ذلك ، هل يحنث في اليمين والطلاق أو لا يحنث فيهما ، كما لو حلف لا يفعل كذا ففعله ناسيا أو جاهلا بأنه المحلوف عليه ؟ فأجبت بأن الذي يظهر ترجيحه الحنث بخلاف صورة الاستقبال ، ومعتمدي في ذلك نقول صريحة وغيرها من كلام الرافعي والنووي وابن الصلاح وغيرهم من المتأخرين ، وليس في كلام أحد منهم التصريح بالتسوية بين صورتي المضي والاستقبال إلا في موضع وقع في الروضة سأذكر تأويله .

فأقول : أما تصريح الرافعي والنووي ففي مواضع :

أحدها : قالا في تعليق الطلاق : لو أشار إلى ذهب وحلف بالطلاق أنه الذي أخذه من فلان ، وشهد عدلان أنه ليس ذلك الذهب طلقت على الصحيح ؛ لأنها وإن كانت شهادة على النفي إلا أنه نفي يحيط العلم به . هذه عبارة الروضة وهي إحدى صور المسألة بلا شك ، فحلفه بذلك إما عن جهل به أو نسيان ، فلا يصح فرض المسألة مع العلم ؛ لأنها حينئذ تطلق قطعا ، فلا يصح حكاية خلاف فيه ، وممن صرح بأن فرض هذه المسألة في الجهل والنسيان الإسنوي والأذرعي ، ثم تعقبه الأول بما اختاره من عدم حنث الجاهل والناسي مطلقا ، وسيأتي مستنده والجواب عنه ، وأما الأذرعي فلم يزد على أن قال هنا : مأخذه يقتضي عدم الحنث وهو الجهل ، وليس في هذا اختيار له ، وسيأتي كلامه في ترجيح الحنث .

الموضع الثاني : قالا في آخر الباب نقلا عن تعليق الشيخ إبراهيم المروذي وأقراه : لو قال السني : إن لم يكن الخير والشر من الله ، فامرأتي طالق ، وقال المعتزلي : إن كانا من الله فامرأتي طالق ، أو قال السني : إن لم يكن أبو بكر أفضل من علي فامرأتي طالق ، وقال الرافضي : إن لم يكن علي أفضل من أبي بكر فامرأتي طالق ، وقع طلاق المعتزلي والرافضي .

وهذه من صور المسألة بلا شك ، فإن حلف المعتزلي والرافضي صادر عن معتقدهما وغلبة ظنهما ، ولم يتعقب الإسنوي في المهمات هذا الموضع ، فإن قلت : لا يصح الاستناد إليه ؛ لأن وقوع الطلاق هنا لفساد هذا الظن ، فلا عذر له ، قلت : هو عين [ ص: 240 ] المسألة بلا شك ؛ لأن فرضها في ظن فاسد استند إليه ظانا صحته . فإن قلت : هذا اعتقاد فاسد وهو دون الظن ، قلت : كلا بل الاعتقاد - صحيحا كان أو فاسدا - أقوى من الظن كما صرح به أهل الأصول ؛ إذ جعلوه قسيم العلم في الجزم ، وجعلوا غير الجازم ظنا ووهما وشكا ، وانظر جمع الجوامع تجده فيه ، ويقرب من هذا الفرع ما نقله في الخادم عن فتاوى القاضي حسين : لو حلف شافعي بالطلاق أن من لم يقرأ الفاتحة في الصلاة لم يسقط فرضه ، وحلف حنفي أنه يسقط ، وقع طلاق زوجة الحنفي ، وإن كنا لا نسلم الوقوع في هذا الفرع ؛ لأن هذا ليس مما تبين القطع بفساده بخلاف مسألة المعتزلي والرافضي .

الموضع الثالث : قال الرافعي : لو جلس مع جماعة فقام ولبس خف غيره ، فقالت له امرأته : استبدلت بخفك ولبست خف غيرك ، فحلف بالطلاق أنه لم يفعل ذلك ، فإن كان خرج بعد خروج الجماعة ولم يبق هناك إلا ما لبسه لم تطلق ؛ لأنه لم يستبدل ، وإنما استبدل الخارجون قبله ، وإن بقي غيره طلقت ، واستدرك عليه النووي فقال : صواب المسألة أنه إن خرج بعد الجميع نظر ، إن قصد أني لم آخذ بدله ، كان كاذبا ، فإن كان عالما أنه أخذ بدله طلقت ، وإن كان ساهيا فعلى قولي طلاق الناسي ، وهذا هو الموضع الذي أخذ منه من أخذ استواء حالتي المضي والاستقبال ، وليس كما ظنوه ، بل هو محمول على إجراء الخلاف فقط ، كما صرح به الرافعي في أوائل الأيمان ، ولا يلزم منه الاستواء في التصحيح كما هو مقرر معروف ، خلافا للإسنوي في المهمات ، حيث تعقب الموضع الأول بأنه إنما يأتي على القول بحنث الناسي ، واستند في ذلك إلى قول الرافعي في الأيمان أن اليمين تنعقد على الماضي كما تنعقد على المستقبل ، وأنه إن كان جاهلا ، ففي الحنث قولان ، كمن حلف لا يفعل كذا ففعله ناسيا ، فظن من التشبيه استواءهما في الصحيح ، وليس كذلك كما أوضحه هو في مواضع كثيرة من المهمات ، وإنما قلت ذلك هنا لأمور :

منها موافقة الموضعين السابقين وإلا لأدى إلى التناقض ، ولا شك أن درأه أولى ، ومنها أن الرافعي في الشرح لم يصحح في مسألة الاستقبال شيئا ، بل حكى القولين بلا ترجيح ، وإنما الذي رجح عدم الحنث النووي في زوائد الروضة تبعا للمحرر ، فأكثر ما وقع من الرافعي أنه حكى في مسألة الاستقبال قولين بلا ترجيح ، ثم حكاهما في مسألة المضي كذلك ، فكيف ينسب له تصحيح عدم الحنث في المضي ، وهو لم يصحح في الموضعين شيئا ؟ وإذا كان على تقدير تصحيحه في الاستقبال عدم الحنث لا يلزم منه [ ص: 241 ] تصحيحه في المضي بمجرد إجراء الخلاف ، فلأن لا ينسب إليه تصحيح في الثانية مع عدم تصحيحه في الأولى أولى .

ومنها أن في فتاوى النووي الإشارة إلى الفرق ، فإنه حكى القولين في حنث الناسي وصحح عدمه ، ثم قال : وصورة المسألة أن يحلف أنه لا يفعل كذا ، فيفعله ناسيا لليمين أو جاهلا أنه المحلوف عليه ، فتصويره المسألة بذلك يشعر بأن صورة المضي بخلاف ذلك وإلا لم يكن للتصوير بذلك فائدة ، وكان فيه إخلال ، فكيف والمعروف من صنيع العلماء أنهم إذا حكموا بحكم ثم قالوا : وصورة المسألة كذا ، فإنهم يقصدون إخراج بقية صورها من ذلك الحكم ، وهذا أمر لا يخفى على من مارس كلام العلماء وتصانيفهم ، ومنها أن جمعا من المتأخرين صرحوا بالمسألة وبتصحيح الحنث فيها ، منهم ابن الصلاح في فتاويه ، فقال : إنه أظهر القولين ، قال : ولم يذكر المحاملي في رؤوس المسائل إلا الحنث ، ومنهم قاضي القضاة تقي الدين بن رزين وبالغ في بسط الكلام فيها ، وقد سقت عبارته في كتاب الأشباه والنظائر بطولها ، ونذكر هنا المقصود منها ، قال : للجهل والنسيان حالتان ، إحداهما : أن يكون ذلك واقعا في نفس اليمين أو الطلاق ، كما إذا دخل زيد الدار وجهل ذلك الحالف أو علمه ثم نسيه ، فحلف بالله أو بالطلاق أنه ليس في الدار ، فهذه اليمين ظاهرها تصديق نفسه في النفي وقد يعرض فيها أن يقصد أن الأمر كذلك في اعتقاده أو فيما انتهى إليه علمه ؛ أي : لم يعلم خلافه ، ولا يكون قصده الجزم بأن الأمر كذلك في الحقيقة بل ترجع يمينه إلى أنه حلف أنه يعتقد كذا أو يظنه ، وهو صادق في أنه معتقد ذلك أو ظان له ، فإن قصد الحالف ذلك حالة اليمين أو تلفظ به متصلا بها لم يحنث ، وإن قصد المعنى الأول أو أطلق ففي وقوع الطلاق ووجوب الكفارة قولان ، مأخذهما أن النسيان والجهل هل يكونان عذرا في ذلك كما كانا عذرا في باب الأوامر والنواهي ، أم لا ، كما لم يكونا عذرا في غرامات المتلفات ؟ ويقوى إلحاقها بالإتلاف ، فإن الحالف بالله أن زيدا في الدار إذا لم يكن فيها قد انتهك حرمة الاسم المعظم جاهلا أو ناسيا ، فهو كالجاني خطأ ، والحالف بالطلاق إن كانت يمينه بصيغة التعليق كقوله : إن لم يكن زيد في الدار فزوجتي طالق ، إذا تبين أنه لم يكن فيها ، فقد تحقق الشرط الذي علق الطلاق عليه ، فإنه لم يتعرض إلا لتعليق الطلاق على عدم كونه في الدار ، ولا أثر لكونه جاهلا أو ناسيا في عدم كونه في الدار ، وأما إن كان بغير صيغة التعليق كقوله لزوجته : أنت طالق لقد خرج زيد من الدار ، وكقوله : الطلاق يلزمني ليس زيد في الدار ، فهذا إذا قصد به اليمين جرى مجرى التعليق وإلا لوقع [ ص: 242 ] الطلاق في الحال ، وإذا جرى مجرى التعليق كان حكمه حكمه ، هذه عبارة ابن رزين بحروفها في هذه الحالة ، ثم ذكر الحالة الثانية وهي التعليق على الفعل في المستقبل ، فيفعله ناسيا أو جاهلا ، وصحح عدم الحنث فيها كما هو المشهور ، وجزم بما قاله ابن رزين من غير عزو إليه القمولي في شرح الوسيط كما رأيته فيه ، ونقله عنه الأذرعي في القوت ، وقال : إنه أخذه من كلام ابن رزين ، وذكر أيضا الزركشي في الخادم كلام ابن رزين ، وقال : تابعه القمولي وغيره .

قلت : وعلم من كلام ابن رزين تقييد محل الخلاف بقيدين مهمين :

أحدهما أن لا يقصد في يمينه الحلف على ظنه ، فإن قصد أن ظنه كذلك لم يحنث قطعا .

الثاني : أن لا يكون بصيغة التعليق ، فإن كان حنث قطعا ، وهذا لا يمتري فيه أحد ، بدليل مسألة الغراب المذكورة في المنهاج ، وإنما نبهت عليه لأني رأيت بعض ضعفاء المشتغلين يهمون فيه ويظنون أنه لا فرق بين صيغة التعليق وغيرها في عدم الحنث في المضي أيضا ، وهذا جهل مبين .

وقال الأذرعي في القوت : تكلم ابن رزين على هذه المسألة في فتاويه وأحسن ، ولا ذكر لقسم المضي في كلامهم ، ويشبه أن يقال : إن قلنا في مسألة الاستقبال بعدم الحنث وانحلال اليمين ، فينبغي أن لا يحنث هنا ، وإن قلنا : لا ينحل كما رجحه الرافعي والنووي ، فقد جعلناه خارجا من اليمين فيحنث ؛ لأن في إخراجه عن اليمين هنا تكلفا ، فلم يحلف هنا إلا على كونه في الواقع كذلك لا على ظنه ، ثم قال : نعم يشبه أن لا يلزمه كفارة ؛ لأنه إذا حلف معتقدا فلا انتهاك ، وينبغي وقوع الطلاق إذا قصد تحقيق الخبر بتعليق الطلاق بنقيض الحالة التي أخبر عنها ولم يكن كذلك ، وقال صاحب الخادم : فصل ابن رزين بين أن يقصد في يمينه أن ظنه كذلك فلا يحنث ، وبين أن لا يقصد ذلك فيحنث ، وأطلق ابن الصلاح الحنث ، والصواب تفصيل ابن رزين ، قال : ويدل لعدم الحنث في حالة القصد يمين عمر في ابن صياد أنه الدجال ، ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بالكفارة ، قال : وينبغي أن يكون في القصد هل هو حالة اليمين أو بعدها ؟ الخلاف في الاستثناء ونية الكناية . انتهى .

قال الشيخ ولي الدين العراقي في مختصر المهمات عند قول الروضة : فإن حلف على ماض كاذبا ؛ فإن كان جاهلا ففي وجوب الكفارة القولان فيمن فعل المحلوف عليه ناسيا ، ما نصه : قلت : أفهم تعبيره بالجهل أن صورة المسألة أن يحلف على نفي شيء جهل وجوده ، فلو حلف على إثبات شيء بالتوهم ، ثم تبين خلافه ، فينبغي أن لا يجري فيه الخلاف ، بل يجزم بالحنث ، ولا عبرة بالظن البين خطؤه ، قال : والفرق [ ص: 243 ] بينهما أنه بنى يمينه في النفي على أصل ، ولم يبن يمينه في الإثبات على شيء ، قال : ويدل لذلك أمور ، منها كلامهم في مسألة الغراب ، ومنها ما في الروضة : لو أشار إلى ذهب وحلف بالطلاق أنه الذي أخذه من فلان ، وشهد شاهدان أنه ليس ذلك الذهب ، طلقت على الصحيح ، وإن كانت شهادة على النفي ؛ لأنه نفي يحيط العلم به ؛ أي محصور ، قال : وهذا يدل على الفرق بالنسيان في الماضي بين النفي والإثبات . انتهى .

فانظر كيف بالغ رحمه الله وجزم بالحنث في قسم الإثبات من غير إجراء خلاف ؟ وهو صريح منه في أن مسألة الذهب المذكورة ليست مفروضة في العلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية