صفحة جزء
( تنبيه ) فإن قلت : هذا تحرير النقل والدليل ، فما تحرير الفرق بين المضي والاستقبال من حيث المعنى ؛ حيث قلت بالحنث في الأول دون الثاني ؟ قلت : تحرر لي في ذلك ثلاثة فروق :

أحدها ما أشار إليه ابن رزين أن الانتهاك ونحوه في الأول وقع حالة اليمين بخلاف الثاني ، فإن نفس اليمين صدرت سالمة من ذلك ، ثم طرأ ذلك بعدها ، وكان هذا راجعا إلى أنه يغتفر في الأثناء ما لا يغتفر في الابتداء .

الثاني : ما أشار إليه الأذرعي أن ترك الحنث في الأول يؤدي إلى إلغاء اليمين الصادرة بالكلية ، وإلغاء يمين مقصودة لم يسبق إليها اللسان بعيد ، بخلاف الثاني ، فإن ترك الحنث فيه لا يؤدي إلى ذلك بناء على أن اليمين لا تنحل وهو الأصح ، فتؤثر بعد ذلك .

الثالث : وهو أقواها عندي - ولم أر من تعرض له - أن الحالف على الماضي غير معذور ، بخلاف الحالف على المستقبل ، وبيان كونه غير معذور من وجهين ، أحدهما أن الحالف على الماضي لا يقصد به إلا تحقيق الخبر ؛ إذ لا يتعلق به حث ولا منع ، فكان عليه أن يستثبت قبل الحلف بخلاف الحالف على المستقبل ، فإن قصده الحث أو المنع ، فله في الحلف قصد صحيح ، والاستثبات فيه غير متصور ، فإذا وقع الفعل المحلوف عليه مع جهل أو نسيان كان معذورا ، بخلاف الحالف على الماضي غير مستثبت ولا متحقق ، فإنه مقصر غير معذور .

الوجه الثاني : أنه كان يمكنه أن يحلف على أن ظنه كذا أو معتقده أو ما انتهى إليه علمه ، [ ص: 248 ] لافظا بذلك أو ناويا له ، فيكون صادقا ، فلما ترك ذلك وعدل إلى الجزم بأنه في نفس الأمر كذلك ، والواقع بخلافه ، كان كاذبا مقصرا حيث لم يقتصر في يمينه على ظنه بل عداه إلى الواقع جازما به ، فلم يعذر لذلك ، ومما يصلح أن يعد فرقا رابعا أن التعليق في الماضي يقتضي الحنث مع الجهل قطعا ، كقوله : إن كانت امرأتي في الحمام فهي طالق ، بخلاف التعليق في المستقبل ، فإنه لا يقتضي الحنث إذا وقع مع الجهل أو النسيان ، وإذا افترق المضي والاستقبال في التعليق ، فلا بدع أن يفترقا في اليمين ؛ لأنه جار مجراه .

( تنبيه ) تقدم في كلامي أنه لا يلزم من البناء وإجراء الخلاف الاستواء في التصحيح ، وهذا أمر متفق عليه ، فإن قيل : الغالب الاستواء ، قلنا : لا يلزم الحمل على الغالب إلا مع عدم التصريح بخلافه ، على أنه إن أريد بالغالب أن ذلك هو الأكثر مع كثرة مقابله أيضا ، فهذا لا يمنع الحمل على غير الغالب الكثير ، لما قام من الشواهد لذلك ، وإن أريد أن ما خالف ذلك نادر جدا ، فليس كذلك بل هو في غاية الكثرة ، ولولا خشية الإطالة والخروج عن المقصود لأوردت مسائله هنا ، وقد أفردتها بتأليف مستقل :

ومن أمثلة ذلك ما ذكره الرافعي : لو نسي الماء في رحله فتيمم وصلى ، فقولان ، أظهرهما وهو الجديد وجوب الإعادة ، قال : ولو أدرج الماء في رحله وهو لا يشعر به ، ففيه قولا النسيان ، لكن الأصح هنا نفي الإعادة ؛ لأنه لا تقصير فيه ، وفي الذهول بعد العلم نوع تقصير ، وهذا الفرع أشبه شيء بالمسألة التي نحن فيها ، فإن الناسي في مسألة الاستقبال لا ينسب إلى تقصير بخلاف مسألة المضي ، فإن الإقدام على الحلف على نفي الشيء بعد وقوعه أو عكسه فيه نوع تقصير ، وما أحسن قول الشيخ تاج الدين السبكي في رفع الحاجب : رب فرع لأصل ذلك الأصل يظهر فيه الحكم أقوى من ظهوره فيه ؛ لانتهاض الدليل عليه ؛ ولهذا ترى الأصحاب كثيرا ما يصححون في المبنى خلاف ما يصححونه في المبني عليه . انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية