صفحة جزء
( تنبيه ) مما يحصل الائتناس به لما قلناه قول الفقهاء : إن المسألة ذات الطريقين إذا كان الأصح فيهما طريقة الخلاف ، فالغالب أن الأصح فيها ما وافق طريقة القطع ، وهذه المسألة فيها طريقة قاطعة بالحنث كما تقدم أن ابن الصلاح نقل ذلك عن المحاملي ، وحينئذ فالراجح من قولي الطريقة المشهورة ما وافقها ، على أن عندي في إثبات القولين في المسألة نظرا ، فإن الأذرعي ذكر أن الأصحاب لم يتعرضوا لقسم المضي ، فالظاهر إجراء القولين فيها من تخريج الرافعي ، ثم رأيت أن أوسع النظر في كتب الشافعي [ ص: 249 ] والأصحاب في هذه المسألة لأقف على متفرقات كلامهم فيها ، وأعلم من تعرض لها ممن لم يتعرض لها ، فراجعت الأم فوجدت فيها ما يدل على الحنث ، ونصه في أبواب ما اختلف فيه مالك والشافعي ، قال الربيع : قلت للشافعي : ما لغو اليمين ؟ فقال : أما الذي نذهب إليه فما قالت عائشة ، أخبرنا مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت : لغو اليمين قول الإنسان : لا والله وبلى والله . فقلت للشافعي : ما الحجة فيما قلت ؟ قال : اللغو في لسان العرب : الكلام غير المعقود عليه فيه ، من جماع اللغو يكون الخطأ ، فخالفتموه وزعمتم أن اللغو حلف الإنسان على الشيء يظن أنه كما حلف عليه ، ثم يوجد على خلافه ، قال الشافعي : فهذا ضد اللغو ، هذا هو الإثبات في اليمين بعقدها على ما يعقد عليه ، وقول الله ( ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) ما عقدتم به عقد اليمين عليه ، ولو احتمل اللسان ما ذهبتم إليه منع من احتماله ما ذهبت إليه عائشة ، وكانت أولى أن تتبع منكم ؛ لأنها أعلم باللسان منكم مع علمها بالفقه ، هذا نصه بحروفه ، فقوله : هذا ضد اللغو ، إلى آخره ، صريح في الحكم بالحنث والمؤاخذة على خلاف ما في اللغو ، فإن الشافعي قصد بهذا الكلام الرد على مالك ، فإنه اختار تفسير اللغو في الآية بذلك كما تقدم ، واحتج به على عدم الحنث في اليمين فيمن حلف على ظنه ، ثم تبين خلافه ، وإذا كان نص الشافعي صريحا في الحنث في اليمين ، ففي الطلاق أولى ؛ لأن مالكا موافق على الحنث فيه ، ثم رأيت في موضع آخر من الأم ما نصه : قيل للشافعي : فإنا نقول : إن اليمين التي لا كفارة فيها ، فإن حنث فيها صاحبها : إنها يمين واحدة إلا أن لها وجهين : وجه يعذر فيه صاحبه ويرجى له أن لا يكون عليه فيها إثم ؛ لأنه لم يعقد فيها إثم ولا كذب ، وهو أن يحلف بالله على الأمر لقد كان ولم يكن ، فإذا كان ذلك جهده ومبلغ علمه ، فذلك اللغو الذي وضع الله منه المؤونة عن العباد وقال : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) .

والوجه الثاني : أنه إن حلف عامدا للكذب استخفافا باليمين بالله كاذبا ، فهو الوجه الثاني الذي ليست فيه كفارة ؛ لأن الذي يعرض من ذلك أعظم من أن يكون فيه كفارة وإنه ليقال له : تقرب إلى الله بما استطعت من خير ، فقال الشافعي : أخبرنا سفيان ثنا عمرو بن دينار وابن جريج عن عطاء قال : ذهبت أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة ، وهي معتكفة في ستر ، فسألتها عن قول الله عز وجل : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ) قالت : هو : لا والله وبلى والله . قال الشافعي : فلغو اليمين كما قالت عائشة رضي الله عنها ، وذلك إذا كان على اللجاج [ ص: 250 ] والغضب والعجلة ، لا يعقد على ما حلف عليه ، وعقد اليمين أن يثبتها على شيء بعينه ؛ أن لا يفعل الشيء فيفعله ، أو ليفعلنه فلا يفعله ، أو لقد كان ، وما كان ، فهذا عليه الكفارة هذا نصه بحروفه . وقوله : قيل للشافعي ، يعني من جهة أصحاب مالك ، فهذان نصان في الأم صريحان في الحنث ، وقد استوعبت الأم من أولها إلى آخرها ، فلم أجد فيها تعرضا للمسألة إلا في هذين الموضعين ، وقد جزم فيها بالحنث كما ترى ، ثم راجعت مختصر المزني .

التالي السابق


الخدمات العلمية