صفحة جزء
باب الجهاد

مسألة : في الرمي بالنشاب على نية الجهاد في سبيل الله هل هو واجب لمطلق الأمر في قوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) ، والقوة مفسرة من النبي صلى الله عليه وسلم بالرمي أم لا ؟ وإذا لم يكن واجبا فهل الصارف عن ذلك قول من قال من الصحابة : الآية منسوخة ؟ وإذا قلتم : بسنيته فهل ذلك من باب أن الأمر بالوجوب إذا انتفى بطريق ما يبقى الندب ، أو قطع النظر عن الآية بالكلية ؛ لدعوى نسخها ، وأخذت السنية من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ؟ .

الجواب : نقول : مذهبنا أن الرمي بالنشاب على نية التأهب للجهاد سنة لا واجب ولا مباح مستوي الطرفين - هكذا نص عليه الأصحاب ، وإذا نظرنا إلى مقتضى الأدلة من الآية والأحاديث وجدناها تدل على ذلك ولا تتعداه ، وبيان ذلك أن نقول : الأمر في الآية الكريمة له أربعة احتمالات :

أحدها : أن تكون للإرشاد ، كما في قوله تعالى : ( وأشهدوا إذا تبايعتم ) ، وهذا الاحتمال ضعيف ؛ لكثرة الأحاديث الواردة في الترغيب في الرمي وترتيب الثواب عليه ، ومثل ذلك لا يكون إلا فيما أمر به على وجه الندب أو الوجوب ، لا على وجه الإرشاد ، كحديث : " تعلموا الرمي فإن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة " . وحديث : " الرمي سهم من سهام الإسلام " .

الثاني : أن يكون للندب وهو المدعى ؛ لأنه في صيغة الأمر أظهر من الإرشاد فيها ، وإذا انتفى الوجوب بالطريق الآتي بقي الندب ؛ لأنه القدر المتيقن من صيغة الطلب ، ولا نافي له ، بل الأحاديث الآمرة والمرغبة مثبتة له .

الثالث : أن يكون للوجوب ، ولا شك أنه بعيد من لفظ الآية ؛ لأن صيغة الأمر لم [ ص: 286 ] تنصب عليه بخصوصه ، إنما انصبت على المستطاع من قوة الصادق بالرمي وبغيره ، كما هو مدلول لفظ " ما " التي موضوعها العموم لغة وشرعا ، وكما ورد بذلك التفسير عن الصحابة ، والتابعين ، أخرج ابن مردويه في تفسيره ، وأبو الشيخ ابن حيان في كتاب السبق والرمي من طريق الضحاك ، عن ابن عباس في قوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) قال : الرمي والسيوف والسلاح ، وأخرج أبو الشيخ عن مخلد بن يزيد قال : سألت الأوزاعي عن قوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) قال : القوة سهم فما فوقه ، وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره من طريق عباد بن جويرية عن الأوزاعي قال : سألت الزهري عن قوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) قال : قال سعيد بن المسيب قال : القوة . الفرس إلى السهم فما دونه .

وأخرج عن مقاتل بن حيان قال : القوة السلاح ، وما سواه من قوة الجهاد ، وأخرج عن عكرمة قال : القوة . الحصون ، وأخرج عن مجاهد قال : القوة ذكور الخيل .

وأخرج عن رجاء بن أبي سلمة قال : لقي رجل مجاهدا ، وهو يتجهز إلى الغزو ومعه جوالق ، فقال مجاهد : وهذا من القوة ، فهذه أقوال الصحابة والتابعين صريحة في أن المراد من الآية ما هو أعم من الرمي وغيره ، وأما الحديث الصحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " ألا إن القوة الرمي " فليس المراد منه حصر مدلول الآية فيه ، بل المراد أنه معظم القوة ، وأعظم أنواعها تأثيرا ونفعا على حد قوله : " الحج عرفة " أي : معظم أعمال الحج ، وليس المراد أنه لا ركن للحج سواه كما هو معروف ، وقد فهم هذا الفهم مكحول من التابعين ، فقال في تفسير الآية : الرمي من القوة ، أخرجه ابن المنذر في تفسيره .

وإذا تقرر ذلك كان القول بوجوب الرمي أخذا من الأمر في الآية ، لا على معنى أنه واجب بعينه ، بل من باب إيجاب شيء لا بعينه ، كما قال الفقهاء في خائف العنت : إنه يجب عليه التعفف ، ولا يقال : إن النكاح في حقه واجب على معنى أنه واجب بعينه ، بل على معنى أن السعي في الإعفاف واجب إما بالنكاح وإما بالتسري ، فإيجاب النكاح عليه من باب إيجاب شيء لا بعينه ، وما كان من هذا القبيل إذا حكم عليه بعينه قيل : إنه سنة ، ولهذا أطلق أصحاب المختصرات قولهم : النكاح سنة لمحتاج إليه يجد أهبته ، وكذلك هنا الواجب إعداد ما ينتفع به في القتال ، ويدفع به العدو ؛ إما الرمي أو غيره ، وإذا حكم على الرمي بعينه قيل : إنه سنة كما صرح به الأصحاب ، فعرف بذلك وجه قولهم : إنه سنة ، وإنه ليس لكون الآية منسوخة ، بل لهذه القاعدة الأصولية التي أشرنا إليها .

الاحتمال الرابع : أن الأمر قد يكون في الآية ليس لكل الناس ، بل لقوم مخصوصين [ ص: 287 ] وهم المرصدون للجهاد المنزلون في ديوان الفيء ، فيكون واجبا عليهم من حيث أنهم ارتزقوا أموال الفيء على أن يقوموا بدفع الكفار عن المسلمين ، فوجب عليهم السعي في تحصيل ما يحصل به الدفع ، ويؤيد هذا ما ورد : أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب إلى أبي عبيدة - علموا غلمانكم العوم ، ومقاتلتكم الرمي - وهذا الوجوب من باب إيجاب ما لا يتم الواجب إلا به ، كإيجاب نصب السلم عند إيجاب صعود السطح ، وليس من باب الوجوب المطلق ، وهو أيضا إذا نظر إليه في حد ذاته ، لم يحكم عليه بخصوصه إلا بالنسبة ، كغسل بعض الرأس والرقبة مع الوجه في الوضوء ، فإنه من باب مقدمة الواجب ، ويطلق عليه الوجوب ؛ لأجل تحقق استيعاب الوجه ، وإذا نظر إليه في حد ذاته كان سنة ؛ لأن الواجب الأصلي في الوضوء غسل الوجه لا بعض الرأس والرقبة ، فاتضح بهذا قول الأصحاب أنه من قسم السنة لا من قسم الواجب ، ولا المباح المستوي الطرفين ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية