صفحة جزء
31- القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى .

مسألة : في شخص يدعي فقها ، يقول : إن توحيد الله متوقف على معرفة علم المنطق ، وإن علم المنطق فرض عين على كل مسلم ، وإن لمتعلمه بكل حرف منه عشر حسنات ، ولا يصح توحيد من لا يعلمه ، ومن أفتى وهو لا يعلمه فما يفتي به باطل ، وقال : إن الحشيشة كل من استعملها كفر ، وقال : إن المجتهد يحل الحرام ويحرم الحلال ، وقال : إن أبا حامد الغزالي ليس بفقيه ، وإنما كان زاهدا فماذا يجب عليه في ذلك ؟ .

الجواب : فن المنطق فن خبيث مذموم ، يحرم الاشتغال به ، مبني بعض ما فيه على القول بالهيولي الذي هو كفر ، يجر إلى الفلسفة والزندقة ، وليس له ثمرة دينية أصلا ، بل ولا دنيوية - نص على مجموع ما ذكرته أئمة الدين ، وعلماء الشريعة - فأول من نص على ذلك الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ونص عليه من أصحابه إمام الحرمين ، والغزالي في آخر أمره ، وابن الصباغ - صاحب الشامل - وابن القشيري ، ونصر المقدسي ، والعماد بن يونس ، وحفده ، والسلفي ، وابن بندار ، وابن عساكر ، وابن الأثير ، وابن الصلاح ، وابن عبد السلام ، وأبو شامة ، والنووي ، وابن دقيق العيد ، والبرهان الجعبري ، وأبو حيان ، والشرف الدمياطي ، والذهبي ، والطيبي ، والملوي ، والأسنوي ، والأذرعي ، والولي العراقي ، والشرف بن المقري ، وأفتى به شيخنا قاضي القضاة شرف الدين المناوي ، ونص عليه من أئمة المالكية ابن أبي زيد - صاحب الرسالة - والقاضي أبو بكر بن العربي ، وأبو بكر الطرطوشي ، وأبو الوليد الباجي ، وأبو طالب المكي - صاحب قوت القلوب [ ص: 301 ] وأبو الحسن بن الحصار ، وأبو عامر بن الربيع ، وأبو الحسن بن حبيب ، وأبو حبيب المالقي ، وابن المنير ، وابن رشد ، وابن أبي جمرة ، وعامة أهل المغرب .

ونص عليه من أئمة الحنفية أبو سعيد السيرافي ، والسراج القزويني ، وألف في ذمه كتابا - سماه : " نصيحة المسلم المشفق لمن ابتلي بحب علم المنطق " ونص عليه من أئمة الحنابلة ابن الجوزي ، وسعد الدين الحارثي ، والتقي ابن تيمية ، وألف في ذمه ونقض قواعده مجلدا كبيرا - سماه " نصيحة ذوي الأيمان في الرد على منطق اليونان " وقد اختصرته في نحو ثلث حجمه - وألفت في ذم المنطق - مجلدا سقت فيه نصوص الأئمة في ذلك ، وقول هذا الجاهل : إن المنطق فرض عين على كل مسلم ، يقال له : إن علم التفسير والحديث والفقه التي هي أشرف العلوم ليست فرض عين بالإجماع ، بل هي فرض كفاية ، فكيف يزيد المنطق عليها ؟ ! فقائل هذا الكلام : إما كافر ، أو مبتدع ، أو معتوه لا يعقل .

وقوله : إن توحيد الله متوقف على معرفته من أكذب الكذب ، وأبلغ الافتراء ، ويلزم عليه تكفير غالب المسلمين المقطوع بإسلامهم ، ولو أن المنطق في نفسه حق لا ضرر فيه لم ينفع في التوحيد أصلا ، ولا يظن أنه ينفع فيه إلا من هو جاهل بالمنطق لا يعرفه ؛ لأن المنطق إنما براهينه على الكليات ، والكليات لا وجود لها في الخارج ، ولا تدل على جزئي أصلا ، هكذا قرره المحققون العارفون بالمنطق ، فهذا الكلام الذي قاله هذا القائل استدللنا به على أنه لا يعرف المنطق ، ولا يحسنه ، فيلزم بمقتضى قوله أنه مشرك ؛ لأنه قال : إن التوحيد متوقف على معرفته وهو لم يعرفه بعد . فإن قال : أردت بذلك أن إيمان المقلد لا يصح ، وإنما يصح إيمان المستدل قلنا : لم يريدوا بالمستدل على قواعد المنطق ، بل أرادوا مطلق الاستدلال ، الذي هو في طبع كل أحد حتى في طبع العجائز ، والأعراب ، والصبيان ، كالاستدلال بالنجوم على أن لها خالقا ، وبالسماء ، والأنهار ، والثمار ، وغيرها ، وهذا لا يحتاج إلى منطق ولا غيره ، والعوام والأجلاف كلهم مؤمنون بهذا الطريق .

وقوله : إن للمتكلم بكل حرف منه عشر حسنات هذا شيء لا نعرفه إلا للقرآن ، الذي هو كلام الله جل جلاله ، فإن أراد هذا الجاهل أن يلحق المنطق - الذي هو من وضع الكفار - بكلام رب العالمين فقد ضل ضلالا بعيدا ، وخسر خسرانا مبينا ، والعجب من حكمه على الله بالباطل ، والإخبار بمقادير الثواب لا يتلقى إلا من صاحب النبوة عليه الصلاة والسلام .

وقوله : إن من لا يعلم المنطق ففتواه لا تصح يلزم عليه أن الصحابة [ ص: 302 ] والتابعين [ وأتباع التابعين ] لم تصح فتواهم ، فإن المنطق إنما دخل بلاد الإسلام في حدود سنة ثمانين ومائة من الهجرة ، فمضى في الإسلام هذه المدة ، ولا وجود للمنطق فيه ، وقد كان في هذه المدة غالب المجتهدين من الأئمة المرجوع إليهم في أمر الدين ، أفيظن عاقل مثل هذا الظن ؟ وقد نص الشافعي - رضي الله عنه - نفسه على ذم الاشتغال بالمنطق ، أفيقول هذا الجاهل هذه المقالة في مثل الشافعي - رضي الله عنه - ؟ ومن سميناهم من أئمة المذاهب الأربعة الذين دونوا الفقه ، وأضحوا سبل الفتاوى وهم عصمة الدين .

وقول هذا الجاهل : إن الغزالي ليس بفقيه يستحق عليه أن يضرب بالسياط ضربا شديدا ، ويحبس حبسا طويلا ؛ حتى لا يتجاسر جاهل أن يتكلم في حق أحد من أئمة الإسلام بكلمة تشعر بنقص ، وقوله هذه الكلمة : صادر عن جهل مفرط وقلة دين ، فهو من أجهل الجاهلين ، وأفسق الفاسقين ، ولقد كان الغزالي في عصره حجة الإسلام وسيد الفقهاء ، وله في الفقه المؤلفات الجليلة ، ومذهب الشافعي الآن مداره على كتبه ، فإنه نقح المذهب ، وحرره ، ولخصه في البسيط والوسيط والوجيز والخلاصة ، وكتب الشيخين إنما هي مأخوذة من كتبه .

والحاصل أن هذا الرجل الذي صدرت عنه هذه المقالة رجل غلب عليه الجهل ، والحمق ، والفسق ، فالواجب على المحتاط لدينه أن يهجره في الله ، ويتخذه عدوا يبغضه فيه إلى أن تأتيه من الله قاصمة تلحقه بالغابرين .

وقوله في الحشيشة : من استعملها كفر ، لا ينكر عليه إطلاق هذه المقالة ؛ لأن مثل هذا يجوز أن يقال في معرض الزجر والتغليظ ، كقوله صلى الله عليه وسلم : " من ترك الصلاة فقد كفر " ، فيكون مؤولا على المستحل ، أو المراد كفر النعمة لا كفر الملة ، فإن أراد حقيقة الكفر من غير تأويل فباطل ؛ لأن مذهب أهل السنة أن لا يكفر أحد بذنب ، والعالم إذا أفتى بمثل هذه العبارة إنما يطلقها متأولا على ما ذكرنا ، والمجتهد لا يحلل حراما ، ولا يحرم حلالا ، فالتحليل والتحريم لله وحده لا شريك له ، بل ولا يحدث قولا من عنده ، إنما وظيفته أن ينظر في أقوال من تقدمه ، ويختار ما قام الدليل عنده على رجحانه .

التالي السابق


الخدمات العلمية