صفحة جزء
مسألة : في رجل اشتهر بوقتنا هذا بعلم التعبير ، وفتح عليه فيه ، ونور الله بصيرته بمعرفة تفسير الرؤيا ، وإن كان في غيرها مزجي البضاعة ، فإذا قص عليه أحد رؤيا بادر إلى تفسيرها ، فيحمد الله تعالى ، ويصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم يفسرها بكلام أهل الصناعة ، ويستشهد عليه بأدلة من الكتاب والسنة ، وما وافق القواعد والمنقول في هذا الفن ، متبعا شروطه وآدابه في الأغلب ، ولم ينقل عنه مع كثرة تعبيره أنه أخطأ في شيء من ذلك خطأ فاحشا ، خالف فيه منقول أهل الفن ، هذا وقد قرأ فيه كتبا على مشايخ عصره ، وتفهم ظواهرها بحسب الحال ، وشاع نفع الناس به ، وقصدوه من الأمكنة البعيدة ؛ لفقد العلماء بذلك ، ثم إن رجلا كبيرا من الناس قام على هذا الرجل المذكور ، وأنكر عليه كثرة تعبيره لكل سائل كائنا من كان ، وسرعة مبادرته لذلك فزجره ونهاه عن تعبير الرؤيا مطلقا ؛ قاصدا نصحه ، وقال له ما معناه : هذا العلم تخييلات من باب الظن والحدث ، وهو مظنة الكذب والخطأ ، فلا يجوز العمل به ، ولا الاعتماد عليه ، فانزجر الرجل المذكور ، وكف عن تعبير الرؤيا مدة طويلة ، فتضرر كثير من الناس بسبب ذلك ، ورموه بألسنتهم ، وظنوا بامتناعه أن قصده به طلب الدنيا من الأكابر بسؤالهم له في ذلك ، واحتياجهم إليه ، وقد وقع في ورطة مع الناس بسبب ذلك ، وحصل عنده شك وارتياب في هذا العلم ، هل له حقيقة ؟ أو كما [ ص: 304 ] يقوله هذا المعترض ؟ وهل الأولى له الرجوع إلى ما كان عليه من التعبير لكل سائل إذ الحاجة والضرورة إليه أم لا ؟ وإذا كان لم يأخذ عليه جعالة فهل يثاب عليه أم لا ؟ .

الجواب : القول بأن الرؤيا وتعبيرها تخيلات لا أصل لها يكاد يخرق الإجماع ، فإن الكتاب والسنة طافحان باعتبار الرؤيا وتأويلها ، وقد ورد في الحديث : " أن رؤيا العبد كلام يكلمه ربه في المنام " ، وفي أثر آخر : " أن الله وكل بالرؤيا ملكا يريها للنائم " ، والأحاديث في ذلك ونحوه كثيرة عن حد الحصر ، وإنما قصر علم الناس عن كثير من المغيبات ؛ لعدم وقوفهم على السنة ، واشتغالهم بها وهي لا تؤخذ إلا من جهة الوحي ، فعدلوا عن معدنها ، ورجعوا إلى أقوال الحكماء والفلاسفة الجهال الضلال الذين حدسوا بأفكارهم وخمنوا فلم يقفوا على حقيقة الحال ، كقولهم هذا في الرؤيا ، وكقولهم : في الطاعون ، والزلزلة ، والرعد ، والبرق ، والصواعق ، والقوس ، والمجرة ، والمطر ، والسحاب ، وسائر ما فوق الملكوت وما تحت الأرضين ، كل ذلك خاض فيه الفلاسفة قبحهم الله بالظنون الفاسدة ، فأتوا فيها بأشياء أكذبهم فيها صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم ، الموحى إليه بعلوم الأولين والآخرين .

وقول المنكر : فلا يجوز العمل به ، كلام عجيب ، فإن الرؤيا ليست علم عمل ، بل إما تبشير بخير ، أو تحذير من شر ، فأي عمل هنا ؟ نعم التثبت مطلوب ، وعدم المسارعة والمبادرة ، وقد تكون الرؤيا صورتها واحدة ، ويختلف تأويلها بحسب الرائي وحاله وصفته ، وما اتفق في أيام الرؤيا ، وقد تكون الرؤيا من أنواع الكشف الذي يحصل لأرباب الأحوال في كثير من أوقاتهم ، وهذه لا يليق بكل معبر ، تأويلها إنما يؤولها صاحب حال له معرفة بأحوال القوم .

وفي جواز أخذ الجعالة على تأويل الرؤيا وقفة ، ويقرب الجواز ؛ لأنه ليس من الفروض والعبادات التي يمتنع أخذ الأجرة عليها ، ووجه التوقف كونه كلاما يقال ، فيشبه الاستئجار على كلمة لا تتعب ، ولكن الفرق أوضح ، وفي الثواب عليه إذا لم يأخذ أجرة وقفة أيضا ، والأقرب أنه لا ثواب ؛ لأنه ليس من العلوم المفروضة ولا المندوبة ، بل من المباحات ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية