صفحة جزء
34 - القذاذة في تحقيق محل الاستعاذة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى .

وقع السؤال عما يقع من الناس كثيرا إذا أرادوا إيراد آية قالوا : قال الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ويذكرون الآية هل ( بعد ) هذه جائزة قبل الاستعاذة أم لا ؟ وهل أصاب القارئ في ذلك أو أخطأ ؟

فأقول : الذي ظهر لي من حيث النقل والاستدلال أن الصواب أن يقول : قال الله تعالى ، ويذكر الآية ولا يذكر الاستعاذة فهذا هو الثابت في الأحاديث والآثار من فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين فمن بعدهم - أخرج أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والنسائي عن أنس قال : قال أبو طلحة : " يا رسول الله إن الله يقول : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) وإن أحب أموالي إلي بيرحاء " الحديث ، وأخرج عبد بن حميد ، والبزار عن حمزة بن عبد الله بن عمر قال : قال عبد الله بن عمر : حضرتني هذه الآية : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) فذكرت ما أعطاني الله فلم أجد أحب إلي من جارية لي رومية فأعتقتها ، وأخرج ابن المنذر عن نافع قال : كان ابن عمر يشتري السكر فيتصدق به ، فنقول له : لو اشتريت لهم بثمنه طعاما كان أنفع لهم ، فيقول : إني أعرف الذي تقولون لكن سمعت الله يقول ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) وإن ابن عمر يحب السكر .

وأخرج الترمذي عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من ملك زادا وراحلة ولم يحج بيت الله فلا يضره مات يهوديا أو نصرانيا ، وذلك بأن الله تعالى يقول ( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) " وأخرج ابن أبي حاتم ، عن الربيع بن أنس رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ ص: 353 ] " إن الله قضى على نفسه أنه من آمن به هداه ، ومن وثق به نجاه " قال الربيع : وتصديق ذلك في كتاب الله ( ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ) ، وأخرج ابن أبي حاتم عن سماك بن الوليد أنه سأل ابن عباس : ما تقول في سلطان علينا يظلمونا ، ويعتدون علينا في صدقاتنا أفلا نمنعهم ؟ قال : لا ، الجماعة الجماعة ، إنما هلكت الأمم الخالية بتفرقها ، أما سمعت قول الله ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) ؟

وأخرج أبو يعلى ، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا تستضيئوا بنار المشركين ) قال الحسن : وتصديق ذلك في كتاب الله ( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ) ، وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الجمعة : " هي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام ، وذلك لأن الله يقول : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) " والأحاديث والآثار في ذلك أكثر من أن تحصر فالصواب الاقتصار على إيراد الآية من غير استعاذة اتباعا للوارد في ذلك ، فإن الباب باب اتباع ، والاستعاذة المأمور بها في قوله تعالى ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ ) إنما هي عند قراءة القرآن للتلاوة ، أما إيراد آية منه للاحتجاج والاستدلال على حكم فلا ، وأيضا فإن قوله : " قال الله تعالى بعد أعوذ بالله " تركيب لا معنى له وليس [فيه] متعلق للظرف وإن قدر تعلقه بقال ففيه الفساد الآتي ، وإن قال : قال الله : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وذكر الآية ففيه من الفساد جعل الاستعاذة مقولا لله وليست من قوله ، وإن قدم الاستعاذة ثم عقبها بقوله : قال الله وذكر الآية فهو أنسب من الصورتين ، غير أنه خلاف الوارد ، وخلاف المعهود من وصل آخر الاستعاذة بأول المقروء من غير تخلل فاصل ، ولا شك أن الفرق بين قراءة القرآن للتلاوة ، وبين إيراد آية منه للاحتجاج جلي واضح .

التالي السابق


الخدمات العلمية