صفحة جزء
مسألة : في قوله تعالى : ( يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ) ما السمة التي كانت عليهم ؟ وهل كان للنبي صلى الله عليه وسلم عذبة ؟ فإن الشيخ مجد الدين الشيرازي [ ص: 358 ] نقل في شرح البخاري أنه كان له عذبة طويلة نازلة بين كتفيه وتارة على كتفه ، وأنه ما فارق العذبة قط ، وأنه قال : " خالفوا اليهود ولا تصمموا فإن تصميم العمامة من زي أهل الكتاب " وأنه قال : " أعوذ بالله من عمامة صماء " فهل هذه الأحاديث صحيحة ؟ وما على من علم أن العذبة سنة وتركها مستنكفا عنها ؟ وهل إذا اقتدى الشخص برسول الله صلى الله عليه وسلم في العذبة وحصل له الخيلاء يحرم عليه أم لا ؟ وهل يجوز أن يقال : إن الأحاديث كلام الله ؟ .

الجواب : أما السمة التي كانت عليهم فروى ابن أبي حاتم في تفسيره بأسانيد عن علي ، وابن عباس ، ومجاهد أنها الصوف الأبيض في نواصي خيولهم وأذنابها ، وروي عن أبي هريرة بالعهن الأحمر ، وروي عن مكحول وغيره أنها العمائم ، وروي من طريق وكيع ، عن هشام بن عروة ، عن يحيى بن عباد أن الزبير كان عليه يوم بدر عمامة صفراء معتجرا بها ، فنزلت الملائكة ، عليهم عمائم صفر ، ورواه ابن المنذر من طريق هشام ، عن عباد بن حمزة ، وزاد في آخره : مثل سيما الزبير ، وروى الطبراني في الكبير عن ابن عباس قال : كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها إلى ظهورهم ، وفي إسناده عمار بن أبي مالك ضعفه الأزدي ، وروي أيضا عن عروة قال : نزل جبريل عليه السلام يوم بدر على سيما الزبير وهو معتجر بعمامة صفراء ، وهو مرسل صحيح الإسناد .

وروي أيضا عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في " قوله : ( مسومين ) قال : معلمين " وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود ، وفي إسناده عبد القدوس بن حبيب وهو متروك ، وروى ابن جرير بإسناد حسن عن أبي أسيد الساعدي وهو بدري ، قال : خرجت الملائكة يوم بدر في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم .

فالذي صح من هذه الروايات في العمائم أنها صفر مرخاة بين الأكتاف ، ورواية البيض والسود ضعيفة .

والاعتجار لف العمامة على الرأس قاله في الصحاح .

وأما العذبة فوقفت فيها على عدة أحاديث من لبس النبي صلى الله عليه وسلم وإلباسه وليس فيها طويلة :

الأول عن عمرو بن حريث قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه . رواه مسلم وأبو داود .

الثاني : عن ابن عمر قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه ، قال نافع : وكان ابن عمر يفعل ذلك ، رواه الترمذي في الشمائل .

الثالث : عن عبد الرحمن بن عوف قال : عممني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسدلها بين يدي ومن خلفي ، رواه أبو داود .

الرابع : عن عائشة قالت : عمم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف وأرخى له أربع أصابع ، رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه مقدام بن داود وهو ضعيف .

[ ص: 359 ] الخامس : عن ثوبان " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتم أرخى عمامته بين يديه ومن خلفه " رواه في الأوسط وفيه الحجاج بن رشدين ضعيف .

السادس : عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عمم عبد الرحمن بن عوف فأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحوها ثم قال : " هكذا فاعتم فإنه أعرب وأحسن " ، رواه في الأوسط وإسناده حسن .

السابع : عن أبي عبد السلام قال : قلت لابن عمر : كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتم ؟ قال : " كان يدير كور العمامة على رأسه ويغرزها من ورائه ويرسلها بين كتفيه " ، رواه الطبراني في الكبير وإسناده على شرط الصحيح إلا أبا عبد السلام وهو ثقة .

الثامن : عن أبي موسى أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء قد أرخى ذؤابتها من ورائه . رواه في الكبير ، وفيه عبد الله بن تمام وهو ضعيف .

التاسع : عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالعمائم ، فإنها سيما الملائكة وأرخوها خلف ظهوركم " رواه في الكبير ، وفيه علي بن يونس وهو مجهول .

العاشر : عن أبي أمامة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يولي واليا حتى يعممه ويرخي لها من جانبه الأيمن نحو الأذن ، رواه في الكبير ، وفيه جميع بن ثوب متروك .

الحادي عشر : عن عبد الله بن بسر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا إلى خيبر فعممه بعمامة سوداء ، ثم أرسلها من ورائه ، أو قال : على كتفه ، رواه في الكبير وإسناده حسن .

الثاني عشر : عن عائشة قالت : " عمم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف بفناء بيتي هذا ، وترك من عمامته مثل ورق العشر ، ثم قال : رأيت أكثر الملائكة معتمين " أخرجه ابن عساكر .

هذا ما حضرني الآن من الأحاديث فيها ، فقول الشيخ مجد الدين : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عذبة صحيح ، وقوله : طويلة لم أره ، لكن يمكن أن يؤخذ من أحاديث إرخائها بين الكتفين ، وقوله : بين كتفيه صحيح كما تقدم ، وقوله : وتارة على كتفه لم أقف عليه من لبسه لكن من إلباسه كما تقدم في تعميمه عبد الرحمن بن عوف وعليا ، وقوله : ما فارق العذبة قط ، لم أقف عليه في حديث بل ذكر صاحب الهدي أنه كان يعتم تارة بعذبة وتارة بلا عذبة .

وأما حديث : " خالفوا اليهود " إلى آخره ، وحديث : " أعوذ بالله من عمامة صماء " فلا أصل لهما ، ومن علم أنها سنة وتركها استنكافا عنها أثم أو غير مستنكف فلا ، قال [ ص: 360 ] النووي في شرح المهذب : يجوز لبس العمامة بإرسال طرفها وبغير إرساله ، ولا كراهة في واحد منهما ، ولم يصح في النهي عن ترك إرسالها شيء ، وإرسالها إرسالا فاحشا كإرسال الثوب فيحرم للخيلاء ويكره لغير الخيلاء لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الإسبال في الإزار والقميص والعمامة ، من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " رواه أبو داود ، والنسائي بإسناد صحيح ، وأما إذا اقتدى الشخص به صلى الله عليه وسلم في عمل العذبة وحصل له ضمن ذلك خيلاء ، فدواؤه أن يعرض عنه ويعالج نفسه على تركه ، ولا يوجب ذلك ترك العذبة ، فإن لم يزل إلا بتركها فليتركها مدة حتى يزول ; لأن تركها ليس بمكروه ، وإزالة الخيلاء واجبة ، وأما : هل يجوز أن يقال : الأحاديث كلام الله ؟ فنعم بمعنى أنها من عند الله قال تعالى : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) وروى أبو داود ، وابن حيان في صحيحه من حديث المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا إني أوتيت الكتاب وما يعدله ، فرب شبعان على أريكته يحدث بحديثي فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ما كان فيه من حلال استحللناه وما فيه من حرام حرمناه ، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله " .

وروى أبو داود من حديث العرباض بن سارية نحوه وفيه : " ألا إني أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها بمثل القرآن أو أكثر " ، وأصرح من ذلك في المطلوب ما رواه أحمد عن أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي مثل الحيين ربيعة ومضر ، فقال رجل : يا رسول الله ، وما ربيعة ومضر ؟ فقال : إنما أقول ما أقول " وإسناده حسن .

وقال حسان بن عطية : كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن ، أخرجه الدارمي بإسناد صحيح عنه ، وهو شامي ثقة من صغار التابعين ; ولذلك شواهد كثيرة استوعبتها في القطعة التي كتبتها على سنن ابن ماجه وفيما ذكرناه كفاية .

التالي السابق


الخدمات العلمية