صفحة جزء
الفصل الثاني : في تضعيف ما أفتى به الجوجري ، وذلك من أربعة وجوه : ثلاثة جدلية وواحد من طريق التحقيق ، فأما الثلاثة الأولى فأحدها أن نقول : لا شك أنه لو جاز لأحد أن يفتي في مسألة بمجرد نظره لها في كتاب أو كتابين من غير أن يكون متقنا لذلك الفن بجميع أطرافه ماهرا فيه متبحرا فيه ، لجاز لآحاد الطلبة أن يفتوا ، بل العوام والسوقة لا يعدم أحد منهم أن يكون عارفا بعدة من المسائل تعلمها من عالم أو رآها في كتاب ، ولا ريب في أنه لا يجوز لأحد منهم أن يفتي ، وقد نص العلماء على أن العامي لو تعلم مسائل وعرفها لم يكن له أن يفتي بها ، إنما يفتي المتبحر في العلم العارف بتنزيل الوقائع الجزئية على الكليات المقررة في الكتب ، وما شرطوا في المفتي أن يكون مجتهدا إلا لهذا المعنى وأمثاله ، والمدار الآن على التبحر ، فمن تبحر في فن أفتى به وليس له أن يتعدى إلى فن لم يتبحر فيه ، ويطلق قلمه فيه وهو لم يقف على متفرقات كلام أرباب ذلك الفن ، فلعله يعتمد على مقالة مرجوحة وهو يظنها عندهم صحيحة ، وهذه المسألة من ذلك كما سنبينه ، وكذلك ليس لأحد أن يفتي في العربية وقصارى أمره النظر في المصنف ، والتوضيح ، ونحو ذلك ، بل حتى يحيط بالفن خبرة ويقف على غرائبه وغوامضه ونوادره ، فضلا عن ظواهره ومشاهيره ، وما مثل من يفتي في النحو وقصارى أمره ما ذكر إلا مثل من قرأ المنهاج واقتصر عليه وأراد أن يفتي في الفقه ، فلو جاءته مسألة من الروضة مثلا فإن كان دينا قال : هذه لم أقف عليها ، وإن كان غير ذلك أنكرها بالكلية وقال : هذا شيء لم يقله أحد ، بل ولا والله لا يكتفى في إباحة الفتوى بحفظ الروضة وحدها ، فماذا يصنع في المسائل التي اختلف فيها الترجيح ، ماذا يصنع في المسائل ذات الصور والأقسام ، ولم يذكر في الروضة بقية صورها وأقسامها ، ماذا يصنع في مسائل لها قيود ومحال تركت من الروضة وهي مفرقة في شرح المهذب وغيره من [ ص: 391 ] الكتب ؟ ماذا يصنع في مسائل خلت عنها الروضة بالكلية ؟ بل لا بد في المفتي من أن يضم إلى الروضة حمل كتب ، فإن لم ينهض إلى ذلك وعسر عليه النظر في كتب الشافعي رضي الله عنه وأصحابه المتقدمين ، فلا أقل من استيعاب كتب المتأخرين ، وقد قال ابن بلبان الحنفي في كتابه زلة القارئ : قال الشيخ أبو عبد الله الجرجاني في خزانة الأكمل : لا يجوز لأحد أن يفتي في هذا الباب - يعني باب اللحن في القراءة - إلا بعد معرفة ثلاثة أشياء : حقيقة النحو ، والقراءات الشواذ ، وأقاويل المتقدمين والمتأخرين من أصحابنا في هذا الباب .

الوجه الثاني : أن نقول : لا شك في أن القرآن الكريم حاو لجميع العلوم ، وأئمة المفسرين أصناف شتى ، كل صنف منهم غلب عليه فن من العلوم ، فكان تفسيره في غاية الإتقان من حيث ذلك الفن الغالب عليه ، فينبغي لمن أراد التكلم على آية من حيثية أن ينظر تفسير من غلب عليه ذلك الفن الذي تلك الحيثية منه ، فمن أراد التكلم على آية من حيث التفسير الذي هو نقل محض ومعرفة الأرجح فيه ، فالأولى أن ينظر عليها تفاسير أئمة النقل والأثر ، وأجلها تفسير ابن جرير الطبري ؛ فقد قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات : كتاب ابن جرير في التفسير لم يصنف أحد مثله . وقريب منه من تفاسير المتأخرين تفسير الحافظ عماد الدين ابن كثير . وكذلك من أراد التكلم على آية تتعلق بالأخبار السابقة أو الآتية كأشراط الساعة وأحوال البرزخ والبعث والملكوت ونحو ذلك مما لا مجال للرأي فيه ، فالأولى أخذها من التفسيرين المذكورين ، وسائر تفاسير المحدثين المسندة ؛ كسعيد بن منصور والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ ومن جرى مجراهم ، ومن أراد التكلم على آية من حيث علم الكلام فالأولى أن ينظر عليها تفسير من غلب عليه الكلام واشتهر بالبراعة فيه ، كابن فورك والباقلاني وإمام الحرمين والإمام فخر الدين والأصبهاني ونحوهم ، ومن أراد التكلم عليها من حيث الإعراب فالأولى أن ينظر عليها تفسير أئمة النحو المتبحرين فيه ؛ كأبي حيان ، ومن أراد التكلم عليها من حيث البلاغة فالأولى أن ينظر عليها الكشاف وتفسير الطيبي ونحو ذلك .

ومسألة تفضيل أبي بكر من علم الكلام ، وكونه هو المراد بالآية من علم التفسير ، فكان الأولى للجوجري قبل الكتابة أن ينظر عليها كتاب ابن جرير ونحوه ؛ لأجل معرفة الأرجح في التفسير ، وكتاب الإمام فخر الدين ونحوه ؛ لأجل معرفة التقرير الكلامي ، ثم ينهض إلى مراجعة كتب أئمة الكلام لينظر كيف قرروا الاستدلال بها على [ ص: 392 ] أفضلية الصديق ، ككتب الشيخ أبي الحسن الأشعري وابن فورك والباقلاني والشهرستاني وإمام الحرمين والغزالي ، ومن جرى مجراهم ، ويتعب كل التعب ويجد كل الجد ، ويعتزل الراحة والشغل ، ولا يسأم ولا يضجر ، ويدع الفتيا تمكث عنده الشهر والشهرين والعام والعامين ، فإذا وقف على متفرقات كلام الناس في المسألة ونظر وحقق وأورد على نفسه كل إشكال وأعد له الجواب المقبول ، حطم حينئذ على الكتابة وحكم بين الأمراء وفصل بين العلماء ، وأما الاستعجال في الجواب والكتابة بمجرد ما يخطر بباله ويظهر في بادئ الرأي ، مع الراحة والاتكال على الشهرة ، وعدم التضلع بذلك الفن وما يحتاج إليه فيه ، فإنه لا يليق ، ولهذا تجد الواحد ممن كان بهذه المثابة يكتب ويرجع ويتزلزل بأدنى زلزلة ، ويضطرب قوله في المسألة الواحدة مرات ، ويبحث معه أدنى الطلبة فيشككه ، وأكثر ما يحتج به الواحد منهم إذا صمم على قوله أن يقول : الظاهر كذا أو كذا ، أو هذا الذي ظهر لي ، من غير اعتماد على مستند بيده أو حجة يظهرها ، كأنه الشيخ أبو الحسن الشاذلي إمام أرباب القلوب في زمانه الذي كان يسأل معتمدا على الإلهام الواقع في قلبه ، ذاك إلهامه صواب لا يخطئ ، وبعد موتات ماتها في الله .

الوجه الثالث : أن نقول : لا شك أن المفتي حكمه حكم الطبيب ، ينظر في الواقعة ويذكر فيها ما يليق بها بحسب مقتضى الحال والشخص والزمان ، فالمفتي طبيب الأديان ، وذلك طبيب الأبدان ، وقد قال عمر بن عبد العزيز : يحدث للناس أحكام بحسب ما أحدثوا من الفجور . قال السبكي : ليس مراده أن الأحكام الشرعية تتغير بتغير الزمان ، بل باختلاف الصور الحادثة ، فإنه قد يحصل بمجموع أمور حكم لا يحصل لكل واحد منها ، فإذا حدثت صورة على صفة خاصة علينا أن ننظر فيها ، فقد يكون مجموعها يقتضي الشرع له حكما خاصا . هذا كلام السبكي ، قرره في كتاب ألفه في شأن رافضي حكم بقتله ، وسماه غيرة الإيمان الجلي لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وقال السبكي أيضا في فتاويه ما معناه : يوجد في فتاوي المتقدمين من أصحابنا أشياء لا يمكن الحكم عليها بأنها المذهب في كل صورة ؛ لأنها وردت على وقائع ، فلعلهم رأوا أن تلك الوقائع يستحق أن يفتى بها بذلك ، ولا يلزم اطراد ذلك واستمراره ، وهذه الواقعة المسئول عنها تتعلق برافضي ، وليته رافضي فقط ، بل زنديق جاهل من كبار الجهلة ، ولقد اجتمعت به مرة فرأيت منه العجب من إنكاره الاحتجاج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد أقواله الشريفة ، ويقول لعنه الله وفض فاه : النبي واسطي ، ما قاله وهو في القرآن فصحيح ، وما قاله وليس [ ص: 393 ] في القرآن . وذكر كلمة لا أستطيع ذكرها ، فرجعت من عنده ولم أجتمع به إلى الآن ، وألفت مؤلفا سميته : مفتاح الجنة في الاعتصام بالسنة ، وكان من جملة أقواله في ذلك المجلس : علي عنده العلم والشجاعة ، وأبو بكر ليس عنده ذلك ، وإنما زوجه بابنته وأنفق عليه ماله فكافأه بالخلافة بعده ، فقلت له : وردت الأحاديث بأن أبا بكر أعلم الصحابة وأشجعهم ، فقال : هذه الأحاديث كذب ، ثم أعاد الآن الكلام في ذلك مع خاير بك وطلب منه الاستدلال على أفضلية أبي بكر بآية من القرآن ؛ لأنه لا يرى الحديث حجة ، فذكر له خاير بك هذه الآية ، ولم يقلها من عند نفسه ، بل رآها في بعض كتب الكلام فذكرها ، فكان لا يليق بالجوجري في مثل هذه الواقعة أن يفتي بأن الآية ليست خاصة بأبي بكر ولا دالة على أفضليته ، فيؤيد مقالة الرافضي ويثبته على معتقده الخبيث ويدحض حجة قررها أئمة كل فرد منهم أعلم بالتفسير والكلام وأصول الفقه من مائة ألف من مثل الجوجري ، والله لو كان هذا القول في الآية هو المرجوح لكان اللائق في مثل هذه الواقعة أن يفتي به ، فكيف وهو الراجح والذي أفتى به الجوجري قول مرجوح ؟ هذه الوجوه الثلاثة الجدلية .

وأما الوجه الذي يرد به عليه من جهة التحقيق ، فأقول : قال البغوي في معالم التنزيل : يريد بالأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ، يطلب أن يكون عند الله زكيا لا رياء ولا سمعة ، يعني أبا بكرالصديق في قول الجميع ، وقال ابن الخازن في تفسيره : الأتقى هنا أبو بكر الصديق في قول جميع المفسرين ، وقال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره : أجمع المفسرون هنا على أن المراد بالأتقى أبو بكر ، وذهبت الشيعة إلى أن المراد به علي ، فانظر إلى نقل هؤلاء الأئمة الثلاثة إجماع المفسرين على أن المراد بالأتقى أبو بكر لا كل تقي ، وقال الأصبهاني في تفسيره : خص الصلي بالأشقى والتجنب بالأتقى ، وقد علم أن كل شقي يصلاها ، وكل تقي يجنبها ، لا يختص بالصلي أشقى الأشقياء ، ولا بالنجاة أتقى الأتقياء ؛ لأن الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين فقيل : الأشقى ، وجعل مختصا بالصلي ، كأن النار لم تخلق إلا له . وقيل : الأتقى ، وجعل مختصا بالنجاة ، كأن الجنة لم تخلق إلا له . انتهى .

وهذا صريح في أن المراد بالأتقى أتقى الأتقياء على الإطلاق ، لا مطلق التقي ، [ ص: 394 ] وأتقى الأتقياء على الإطلاق بعد النبيين أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ، وقال النسفي في تفسيره : الأتقى : الأكمل تقوى ، وهو صفة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه . وقال : ودل على فضله على جميع الأمة ، قال تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) انتهى . وقال القرطبي في تفسيره : قال ابن عباس : الأتقى أبو بكر الصديق ، وقال بعض أهل المعاني : أراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي ، كقول طرفة :

تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد

أي واحد ووحيد ، فوضع أفعل موضع فعيل . انتهى .

وهذا الذي نقله عن بعض أهل المعاني هو الذي أفتى به الجوجري عادلا عن قول جميع المفسرين إلى قول بعض أهل النحو ، قال ابن الصلاح : حيث رأيت في كتب التفسير : قال أهل المعاني ، فالمراد به مصنفو الكتب في معاني القرآن كالزجاج والفراء والأخفش وابن الأنباري . انتهى .

وكذا نقل ابن جرير في تفسيره هذه المقالة عن بعض أهل العربية ، ثم قال : والصحيح الذي جاءت به الآثار عن أهل التأويل أنها في أبي بكر بعتقه من أعتق من المماليك ابتغاء وجه الله .

فأنت ترى هذه النقول تنادي على أن الذي أفتى به الجوجري مقالة في الآية لبعض النحويين مشى عليها بعض المصنفين في التفسير ، وأن الذي وردت به الآثار وقاله المفسرون من السلف وصححه الخلف اختصاصها بأبي بكر إبقاء للصيغة على بابها . هذا بيان رجحان ذلك من حيث التفسير ، وأما من حيث أصول الفقه والعربية فأقول : قول الجوجري : إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فرع أن يكون في اللفظ عموم حتى يكون العبرة به ، والآية لا عموم فيها أصلا ورأسا ، بل هي نص في الخصوص ، وبيان ذلك من وجهين :

أحدهما : أن العموم إنما يستفاد في مثل هذه الصيغة من ( أل ) الموصولة والتعريفية ، وليست ( أل ) هذه موصولة قطعا ; لأن الأتقى أفعل تفضيل ، و ( أل ) الموصولة لا توصل بأفعل التفضيل بإجماع النحاة ، وإنما توصل باسم الفاعل والمفعول ، وفي الصفة المشبهة خلاف ، وأما أفعل التفضيل فلا توصل به بلا خلاف ، وأما التعريفية فإنما تفيد العموم إذا دخلت على الجمع ، فإن دخلت على مفرد لم تفده ، كما اختار الإمام فخر [ ص: 395 ] الدين ، ومن قال : إنها تفيده فيه ، قيده بأن لا يكون هناك عهد ، فإن كان لم تفده قطعا ، هذا هو المقرر في علم الأصول . والأتقى مفرد لا جمع ، والعهد فيه موجود فلا عموم فيه قطعا ، فعلم بذلك أنه لا عموم في الأتقى . فتأمل فإنه نفيس فتح الله به علي تأييدا للجناب الصديقي .

الوجه الثاني : أن الأتقى أفعل تفضيل ، وأفعل التفضيل لا عموم فيه ، بل وضعه للخصوص ; فإنه لتفرد الموصوف بالصفة ، وأنه لا مساوي له فيها ، كما تقول : زيد أفضل الناس ، أو الأفضل ، فإنها صيغة خصوص قطعا عقلا ونقلا ، ولا يجوز أن تتناول غيره أبدا ، فبان بذلك أنه لا عموم في الأتقى ، وإلى ذلك يشير تقرير الأصبهاني حيث قال : فإن قلت : كيف قال : ( لا يصلاها إلا الأشقى ) ( وسيجنبها الأتقى ) . وقد علم أن كل شقي يصلاها ، وكل تقي يجنبها ؟ لا يختص بالصلي أشقى الأشقياء ولا بالنجاة أتقى الأتقياء ، وإن زعمت أنه نكر النار فأراد نارا بعينها مخصوصة بالأشقى ، فما تصنع بقوله : ( وسيجنبها الأتقى ) ، فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة لا الأتقى منهم خاصة .

قلت : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتهما المتناقضتين فقيل : الأشقى ، وجعل مختصا بالصلي ، كأن النار لم تخلق إلا له ، وقيل : الأتقى ، وجعل مختصا بالنجاة ، كأن الجنة لم تخلق إلا له . هذه عبارته وهي صريحة في إرادة الخصوص ؛ أخذا من صيغة أفعل التفضيل ، ومن جنح من أهل العربية إلى أنها للعموم احتاج إلى تأويل الأتقى بالتقى ليخرج عن التفضيل ، وهذا مجاز قطعا ، والمجاز خلاف الأصل ، ولا يصار إليه إلا بدليل ، ولا دليل يساعده ، بل الدليل يعارضه ، وهو الأحاديث الواردة في سبب النزول ، وإجماع المفسرين كما نقله من تقدم ، فثبت بهذا كله أن الكلام على حقيقته للتفضيل ، وأن اللام للعهد ، وأنه لا عموم فيه أصلا .

فإن قلت : لم يؤخذ العموم من لفظ ( الأتقى ) بل من لفظ ( الذي يؤتي ) ، فإن ( الذي ) من صيغ العموم .

قلت : هذه غفلة منك وجهل بالعربية ؛ فإن ( الذي ) وصف للأتقى ، وقد تبين أن الأتقى خاص ، فيجب أن تكون صفته كذلك ، لما تقرر في العربية أن الوصف لا يكون أعم من الموصوف ، بل مساويا له أو أخص منه ، فاشدد بهذا الكلام يديك وعض عليه بناجذيك ، على أن في قوله : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) وقوله : ( ولسوف يرضى ) ما يشير إلى التنصيص على التخصيص ، وقد قرر الإمام فخر الدين اختصاص الآية بأبي [ ص: 396 ] بكر والاستدلال بها على أفضليته بطريق آخر ، فقال : أجمع المفسرون منا على أن المراد بالأتقى أبو بكر ، وذهب الشيعة إلى أن المراد به علي ، والدلالة النقلية ترد ذلك وتؤيد الأول ، وبيان ذلك أن المراد من هذا الأتقى أفضل الخلق ؛ لقوله تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ، والأكرم هو الأفضل ، فالأتقى المذكور هنا هو أفضل الخلق عند الله ، والأمة مجمعة على أن أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إما أبو بكر وإما علي ، ولا يمكن حمل الآية على علي ، فتعين حملها على أبي بكر ، وإنما لم يمكن حملها على علي لأنه قال عقيب صفة هذا الأتقى : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) ، وهذا الوصف لا يصدق على علي ؛ لأنه كان في تربية النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه أخذه من أبيه ، فكان يطعمه ويسقيه ويكسوه ويربيه ، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم منعما عليه نعمة يجب جزاؤها ، أما أبو بكر فلم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم عليه نعمة دنيوية ، بل أبو بكر كان ينفق على الرسول ، وإنما كان للرسول عليه نعمة الهداية والإرشاد إلى الدين ، وهذه النعمة لا تجزى ؛ لقوله تعالى : ( لا أسألكم عليه أجرا ) ، والمذكور هنا ليس مطلق النعمة ، بل نعمة تجزى ، فعلم أن هذه الآية لا تصلح لعلي ، وإذا ثبت أن المراد بهذه الآية من كان أفضل الخلق ، وثبت أن ذلك الأفضل من الآية إما أبو بكر وإما علي ، وثبت أن الآية غير صالحة لعلي ، تعين حملها على أبي بكر ، وثبت دلالة الآية أيضا على أن أبا بكر أفضل الأمة . انتهى كلام الإمام .

التالي السابق


الخدمات العلمية