صفحة جزء
باب الأذان

مسألة : من أمير المؤمنين خليفة الوقت الإمام المتوكل على الله ورد أن السامع للمؤذن في حال قيامه لا يجلس ، وفي حال جلوسه يستمر على جلوسه ، وذكروا أنه إذا سمع المؤذن لا يتوجه من مكانه لمخالفة الشيطان ، فإن الشيطان إذا سمع المؤذن أدبر ، وبقي الكلام هل يكره لسامع المؤذن في حال الاضطجاع استمراره على الاضطجاع مع حكايته للفظ المؤذن ، أو الجلوس له أولى ؟ وقد قال الله تعالى : ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) [ ص: 37 ] ونقل عن الإمام مالك أنه أغلظ على من سأل عن حديث في حال قيامه فكيف الحال في ذلك .

الجواب : الآية الشريفة واردة في الحث على الذكر في كل حال وأنه لا يكره في حالة من الأحوال ، وقد روى مسلم في صحيحه عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه . وهذا الحكم الذي دلت عليه الآية ، والحديث باق معمول به عند العلماء كافة ، وما ذكر في السؤال من أن السامع للمؤذن في حال قيامه لا يجلس ، وفي حال جلوسه يستمر على جلوسه لا أصل له في الحديث ، ولا ورد قط في حديث لا صحيح ، ولا ضعيف ، ولا ذكره أحد من أصحابنا في كتب الفقه .

فيجوز للسامع إذا كان قائما أن يجلس ، وإذا كان جالسا أن يضطجع ، وإذا كان مضطجعا أن يستمر على الاضطجاع ويجيب المؤذن حال الاضطجاع ، ولا يكره له ذلك ; لأنه لم يرد فيه نهي ، والكراهة تحتاج إلى دليل من نهي خاص ، ولا سبيل إلى وجوده ، بل الآية الشريفة دالة على جوازه ، وكذلك الحديث المذكور .

وأما إغلاظ الإمام مالك على من سأله عن حديث في حال قيامه ، فلا ينافي ذلك ; لأن العلم وخصوصا الحديث له خصوصية في التوقير والتبجيل أعظم مما يطلب في الذكر ، وقد أخرج البيهقي في كتاب المدخل عن ابن المبارك أن رجلا سأله عن حديث ، وهو يمشي ، فقال : ليس هذا من توقير العلم . فكره ابن المبارك أن يسأل عن حديث ، وهو ماش في الطريق ، وعده منافيا لتوقير العلم ، ومعلوم أن الذكر للماشي في الطريق غير مكروه ، بل ، ولا تكره قراءة القرآن للماشي كما ذكره النووي وغيره .

وأخرج البيهقي عن إسماعيل بن أبي أويس قال : كان مالك إذا أراد أن يحدث توضأ وجلس على صدر فراشه ، وسرح لحيته ، وتمكن في جلوسه بوقار وهيبة فقيل له في ذلك ، فقال : أحب أن أعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يكره أن يحدث في الطريق ، أو وهو قائم ، وأخرج عن سعيد بن المسيب أن رجلا سأله عن حديث ، وهو مريض ، وهو مضطجع فجلس فحدثه ، فقال الرجل : وددت أنك لم تتعن ، فقال : كرهت أن أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع .

وأخرج عن ضرار بن مرة قال : كانوا يكرهون أن يحدثوا على غير طهر . فهذه آداب اختص بها نشر الحديث وروايته تعظيما له ، ولا يطلب عند الذكر الاعتناء بمثل ذلك من تسريح اللحية والجلوس على صدر فراش [ ص: 38 ] ونحوه ، ولا يكره الذكر للمحدث ، بل ، ولا للجنب ، والمقصود بهذا كله أن نشر العلم يطلب عنده آداب تعظيما له يختص بها عن الذكر ونحوه حتى لو أراد الإنسان أن يمر على حديث لنفسه في كتابه ، أو نحوه من غير نشر بين الناس لم يكره له أن يمر عليه ، وهو مضطجع ، أو قائم ، ولو أراد أن يقرئ أحدا القرآن كره له أن يقرئه ، وهو مضطجع ، أو قائم ، أو ماش ; لأن ذلك ليس من توقير العلم ، ولو أراد أن يقرأ لنفسه وحده لم يكره له أن يقرأ ، وهو قائم ، أو ماش ، أو مضطجع ; لأن ذلك مجرد قراءة وذكر لا تعليم .

والحاصل أن الآداب المطلوبة عند تعليم الناس العلم ونشره لهم لا يتعين طلبها على الإنسان إذا كان وحده ، فللقارئ وحده حكم غير المقرئ لغيره ، وللناظر في الحديث وحده حكم غير الراوي له عند غيره ، والذاكر حكمه حكم المنفرد لا حكم المعلم فلهذا لم يكره له الذكر في حال من الأحوال وكره السؤال عن الحديث في حال القيام ، وأما كونه إذا سمع المؤذن لا يتوجه من مكانه لمخالفة الشيطان ، فهذا صحيح ، وقد ورد النهي عنه لكنه خاص بالمسجد ، روى مسلم ، وأبو داود ، والترمذي عن أبي الشعثاء قال : كنا مع أبي هريرة في المسجد ، فخرج رجل حين أذن المؤذن ، فقال أبو هريرة : أما هذا فقد عصى أبا القاسم ، ثم قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنتم في المسجد فنودي بالصلاة ، فلا يخرج أحدكم حتى يصلي .

وأخرج ابن ماجه عن عثمان بن عفان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أدرك الآذان في المسجد ، ثم خرج لم يخرج لحاجة ، وهو لا يريد الرجعة ، فهو منافق " والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية