صفحة جزء
[ ص: 41 ] 3 - ذكر التشنيع في مسألة التسميع

بسم الله الرحمن الرحيم

مسألة : مذهب الشافعي رضي الله عنه أن المصلي إذا رفع رأسه من الركوع يقول في حال ارتفاعه : سمع الله لمن حمده ، فإذا استوى قائما يقول : ربنا لك الحمد ، وأنه يستحب الجمع بين هذين للإمام والمأموم والمنفرد ، وبهذا قال عطاء ، وأبو بردة ، ومحمد بن سيرين ، وإسحاق ، وداود ، وقال أبو حنيفة : يقول الإمام والمنفرد : سمع الله لمن حمده . فقط والمأموم : ربنا لك الحمد . فقط ، وحكاه ابن المنذر عن ابن مسعود ، وأبي هريرة ، والشعبي ، ومالك ، وأحمد قال وبه أقول ، وقال الثوري ، والأوزاعي ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وأحمد : يجمع الإمام بين الذكرين ويقتصر المأموم على : ربنا لك الحمد . واحتج لهم بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا ، وإذا ركع فاركعوا ، وإذا قال : سمع الله لمن حمده فقولوا : ربنا لك الحمد ، وإذا سجد فاسجدوا ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون " وبحديث عائشة قالت : " صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته ، وهو شاك فصلى جالسا وصلى وراءه قوم قياما : فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال : إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا قال : سمع الله لمن حمده . فقولوا : ربنا لك الحمد ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون " رواهما الشيخان . ولأصحابنا الشافعية في الاحتجاج مسالك :

( المسلك الأول ) أن لا حجة للخصوم في هذين الحديثين إذ ليس فيهما ما يدل على النفي ، بل فيهما أن قول المأموم : ربنا لك الحمد . يكون عقب قول الإمام : سمع الله لمن حمده والواقع في التصوير ذلك ; لأن الإمام يقول التسميع في حال انتقاله ، والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله ، فقوله يقع عقب قول الإمام كما في الحديث ، ونظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( إذا قال الإمام : ولا الضالين فقولوا : آمين ) ، فإنه لا يلزم منه أن الإمام لا يؤمن بعد قوله : ( ولا الضالين ) ، وليس فيه تصريح بأن الإمام يؤمن ، كما أنه ليس في هذين الحديثين تصريح بأن الإمام يقول : ربنا لك الحمد لكنهما مستفادان من أدلة أخرى صريحة ، منها هنا ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان [ ص: 42 ] إذا قال : ( سمع الله لمن حمده ) قال : ( اللهم ربنا لك الحمد ) ، وأخرج مسلم عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : حين رفع رأسه : ( سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ) .

وأخرج البخاري مثله من رواية ابن عمر ، ومسلم مثله من رواية عبد الله بن أبي أوفى ، فثبت بهذه الأحاديث أن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد على خلاف ظاهر هذين الحديثين ، فلم يصلح الاستدلال بهما على أن الإمام لا يجمع بينهما ، وإذا لم يصلح الاستدلال بهما في حق الإمام ، لم يصلح الاستدلال بهما في حق المأموم أيضا ، كما لا يخفى .

( المسلك الثاني ) : إذا ثبت أنه لا دلالة في هذين الحديثين على أن الإمام لا يجمع بين الذكرين ، ولا [على] أن المأموم لا يجمع بينهما ، وثبت أن التصريح بأن الإمام يجمع بينهما من أدلة أخرى دل ذلك على أن المأموم أيضا يجمع بينهما ; لأن الأصل استواء الإمام والمأموم فيما يستحب من الأذكار في الصلاة كتكبيرات الانتقالات وتسبيحات الركوع والسجود .

( المسلك الثالث ) : ثبت في صحيح البخاري من حديث مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ، فهذا يدل على أن المأموم يجمع بين التسميع والتحميد ; لأنه أمر الأئمة بأن يصلوا ، كما صلى ، وقد ثبت بتلك الأحاديث أنه لما صلى قال : ( سمع الله لمن حمده ، ربنا لك الحمد ) فلزم من ذلك أن كل مصل يقول ذلك فتتحقق المثلية .

( المسلك الرابع ) : نقل الطحاوي ، وابن عبد البر الإجماع على أن المنفرد يجمع بينهما ، وجعله الطحاوي حجة لكون الإمام يجمع بينهما ، ويصلح جعله حجة لكون المأموم أيضا يجمع بينهما ; لأن الأصل استواء الثلاثة في المشروع في الصلاة إلا ما صرح الشرع باستثنائه .

( المسلك الخامس ) : الاستئناس بما أخرجه الدارقطني بسند ضعيف عن بريدة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يا بريدة ، إذا رفعت رأسك من الركوع فقل : سمع الله لمن حمده ، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد ) ، وبما أخرجه عن أبي هريرة قال : كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : سمع الله لمن حمده . قال من وراءه : سمع الله لمن حمده ، وبما أخرجه عن ابن عون قال : قال محمد : إذا قال الإمام : سمع الله لمن حمده . قال من خلفه : سمع الله لمن حمده ، اللهم ربنا لك الحمد .

[ ص: 43 ] ( المسلك السادس ) : إن الصلاة مبنية على أن لا يفتر عن الذكر في شيء منها ، فإن لم يأت بالذكرين في الرفع والاعتدال بقي أحد الحالين خاليا عن الذكر .

( المسلك السابع ) : قال الأصحاب : معنى قوله صلى الله عليه وسلم ، وإذا قال : سمع الله لمن حمده . فقولوا : ربنا لك الحمد . أي قولوا : ربنا لك الحمد مع ما قد علمتموه من قول : سمع الله لمن حمده ، وإنما خص هذا بالذكر لأنهم كانوا يسمعون جهر النبي صلى الله عليه وسلم بسمع الله لمن حمده ، فإن السنة فيه الجهر ، ولا يسمعون قوله : ربنا لك الحمد غالبا ; لأنه يأتي به سرا ، وكانوا يعلمون قوله صلى الله عليه وسلم : صلوا ، كما رأيتموني أصلي ، مع قاعدة التأسي به صلى الله عليه وسلم مطلقا : فكانوا موافقين في : سمع الله لمن حمده ، فلم يحتج إلى الأمر به ، ولا يعرفون ، ربنا لك الحمد ، فأمروا به .

( المسلك الثامن ) : القياس على حديث : إذا قال المؤذن : حي على الصلاة ، فقولوا : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فإن الراجح في مذهب الخصم أن السامع يجمع بين الحيعلة والحوقلة ، فيكون قوله : فقولوا : لا حول ولا قوة إلا بالله ، أي مضموما إلى الكلمة التي قالها المؤذن فكذلك معنى الحديث : فقولوا : ربنا لك الحمد ، أي مضموما إلى الكلمة التي قالها الإمام .

( المسلك التاسع ) : إن الحديث بعضه منسوخ ، وهو قوله : وإذا صلى جالسا ، فصلوا جلوسا أجمعون ، فما المانع أن يكون دخل في بقية أبعاضه نسخ ، أو تخصيص ، أو تأويل ، وإذا طرقه هذا الاحتمال سقط به الاستدلال ، قال ابن أبي شيبة في مصنفه : ثنا ابن علية ، عن ابن عون ، قال : كان محمد بن سيرين يقول : إذا قال الإمام : سمع الله لمن حمده ، قال من خلفه : سمع الله لمن حمده ، اللهم ربنا لك الحمد .

التالي السابق


الخدمات العلمية