صفحة جزء
46 - أعذب المناهل

في حديث من قال أنا عالم فهو جاهل

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، سئلت عن حديث من قال : أنا عالم فهو جاهل .

الجواب : هذا إنما يعرف من كلام يحيى بن أبي كثير موقوفا عليه على ضعف في إسناده إليه ، ويحيى من صغار التابعين فإنه رأى أنس بن مالك وحده ، وقد يعد في أتباع التابعين باعتبار أنه لم يلق غيره من الصحابة ، ولا يعرف له عن أحد منهم رواية متصلة ، وقد وهم بعض الرواة فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن وجد عنه الجزم بذلك ، وذلك أن الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ، وقال الطبراني : لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد ، وهذا الحديث حكم عليه الحفاظ بالوهم في رفعه ، فإن ليث بن أبي سليم متفق على ضعفه ، قال فيه أحمد بن حنبل : مضطرب الحديث . وقال : ما رأيت يحيى بن سعيد أسوأ رأيا في أحد منه في ليث لا يستطيع أحد أن يراجعه فيه ، وقال فيه ابن معين ، والنسائي : ضعيف ، وقال فيه ابن معين : ليث أضعف من عطاء بن السائب ، وقال عثمان بن أبي شيبة : سألت جريرا عن ليث ، وعن عطاء بن السائب ، وعن يزيد بن أبي زياد فقال : كان يزيد أحسنهم استقامة في الحديث ثم عطاء ، وكان ليث أكثرهم تخليطا ، قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : وسألت أبي عن هذا فقال : أقول كما قال جرير ، وقال إبراهيم بن سعيد الجوهري : حدثنا يحيى بن معين عن يحيى بن سعيد القطان أنه كان لا يحدث عن ليث [ ص: 10 ] بن أبي سليم ، وقال عمرو بن علي : كان يحيى لا يحدث عن ليث بن أبي سليم ، وقال أبو معمر القطيعي : كان ابن عيينة يضعف ليث بن أبي سليم ، وقال علي بن المديني : قلت لسفيان : إن ليثا روى عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ، فأنكر ذلك سفيان وعجب منه أن يكون جد طلحة لقي النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال علي بن محمد الطنافسي : سألت وكيعا عن حديث من حديث ليث بن أبي سليم ، فقال : ليث ليث كان سفيان لا يسمى ليثا ، وقال قبيصة ، قال شعبة لليث بن أبي سليم : أين اجتمع لك عطاء ، وطاووس ، ومجاهد ؟ فقال : إذ أبوك يضرب بالخف ليلة عرسه فما زال شعبة متقيا لليث مذ يومئذ ، وقال أبو حاتم : أقول في ليث كما قال جرير بن عبد الحميد ، وقال ابن أبي حاتم : سمعت أبي ، وأبا زرعة يقولان : ليث لا يشتغل به وهو مضطرب الحديث ، وقال أبو زرعة أيضا : ليث لا تقوم به الحجة عند أهل العلم بالحديث ، وقال مؤمل بن الفضل : قلنا لعيسى بن يونس : لم تسمع من ليث بن أبي سليم ؟ قال : قد رأيته وكان قد اختلط وكان يصعد المنارة ارتفاع النهار فيؤذن ، وقال ابن حبان : اختلط في آخر عمره .

هذا مجموع كلام أئمة الحديث في تخريجه .

والحاصل أنه كان في حال صحة عقله كثير التخليط في حديثه بحيث جرح بسبب ذلك ، ثم طرأ له بعد ذلك الاختلاط في عقله فازداد حاله سوءا ، وحكم المختلط الذي كان قبل اختلاطه من الثقات الحفاظ المحتج بهم أن ما رواه بعد اختلاطه يرد ، وكذا ما شك فيه هل رواه قبل الاختلاط أو بعده فإنه مردود .

فإذا كان هذا حكم من اختلط من الثقات الحفاظ الذين يحتج بهم فكيف بمن اختلط من الضعفاء المجروحين الذين لا يحتج بهم قبل طروء الاختلاط عليهم ؟ وقد جرت عادة الحفاظ إذا ترجموا أحدا ممن تكلم فيه أن يسردوا في ترجمته كثيرا من الأحاديث التي أنكرت عليه ، وإن كان له أحاديث سواها صالحة نبهوا على أن ما عدا ما سردوه من أحاديثه صالح مقبول ، خصوصا إذا كان ذلك الرجل ممن خرج له في أحد الصحيحين فإنهم يقولون : إن صاحب الصحيح لم يخرج من حديثه إلا ما صح عنده من طريق غيره فلا يلزم من ذلك قبول كل ما رواه ، هكذا نصوا عليه . وهذا الرجل روى له مسلم مقرونا بأبي إسحاق الشيباني فالحجة في رواية أبي إسحاق ، والحديث الذي خرجه صحيح من طريق أبي إسحاق ، لا من طريق ليث بن أبي سليم . ولما ترجمه ابن عدي في الكامل سرد أحاديثه التي أنكرت عليه ، ثم قال : له أحاديث صالحة غير ما ذكرت ، وكذا صنع الحافظ الذهبي في الميزان سرد له أكثر من عشرة أحاديث أنكرت [ ص: 11 ] عليه منها هذا الحديث الذي نحن فيه - أعني حديث : " من قال أنا عالم فهو جاهل " - وحديث : " من ولد له ثلاثة أولاد فلم يسم أحدهم محمدا فقد جهل " . وقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات ، وحديث : " كان باليمن ماء يقال له زعاق من شرب منه مات ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وجه إليه : أيها الماء أسلم فقد أسلم الناس ، فكان بعد ذلك من شرب منه حم ولا يموت ، في أحاديث أخر على أن هذا الحديث الذي نحن فيه لم يجزم ليث برفعه ; لقوله فيما تقدم : لا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه صيغة تقال عند الشك .

ومما يؤيد بطلان هذا الحديث الذي نحن فيه من جهة المعنى ثبوت هذا اللفظ عن جماعة من الصحابة منهم علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم ، وما كان هؤلاء ليقعوا في شيء ورد فيه ذم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذا ثبت مثل ذلك عن خلائق لا يحصون من التابعين فمن بعدهم كما سقت رواياتهم وألفاظهم في الكتاب المسمى - بالصواعق على النواعق - ولا شك أن مثل هؤلاء الأئمة لا يطبقون على التلفظ بما ذم النبي صلى الله عليه وسلم التلفظ به ، وأبلغ من ذلك قول نبي الله يوسف عليه السلام فيما حكاه الله عنه في التنزيل ( إني حفيظ عليم ) . فإن قلت : كيف حكم على الحديث بالإبطال وليث لم يتهم بكذب ؟ قلت : الموضوع قسمان : قسم تعمد واضعه وضعه وهذا شأن الكذابين ، وقسم وقع غلطا لا عن قصد وهذا شأن المخلطين والمضطربين في الحديث كما حكم الحفاظ بالوضع على الحديث الذي أخرجه ابن ماجه في سننه وهو : " من كثرت صلاته بالليل ، حسن وجهه بالنهار " فإنهم أطبقوا على أنه موضوع ، وواضعه لم يتعمد وضعه وقصته في ذلك مشهورة . وإلى ذلك أشار العراقي في ألفيته بقوله :

ومنه نوع وضعه لم يقصد

، نحو حديث ثابت : " من كثرت صلاته " الحديث .

وأكثر ما يقع الوضع للمغفلين والمخلطين والسيئ الحفظ بعزو كلام غير النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إليه إما كلام تابعي ، أو حكيم ، أو أثر إسرائيلي كما وقع في : " المعدة بيت الداء " ، " والحمية رأس الدواء " ، " وحب الدنيا رأس كل خطيئة " ، وغير ذلك يكون معروفا بعزوه إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم ، فيلتبس على المخلط فيرفعه إليه وهما منه ، فيعده الحفاظ موضوعا ، وما ترك الحفاظ بحمد الله شيئا إلا بينوه ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [ ص: 12 ] ولكن يحتاج إلى سعة النظر وطول الباع وكثرة الاطلاع ، وقد يقع الوضع في لفظة من الحديث لا في كله كحديث : " لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر أو جناح " ، فإن الحديث صدره ثابت ، وقوله : "أو جناح " موضوع تعمده واضع تقربا إلى الخليفة المهدي ، لما كان مشغوفا باللعب بالحمام ، وقد وقع نظير ذلك لليث هذا صاحب هذا الحديث ، فإنه روى عن مجاهد ، وعطاء عن أبي هريرة في الذي وقع على أهله في رمضان ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أعتق رقبة قال : لا أجد ، قال : أهد بدنة ، قال : لا أجد ، قال الحفاظ : ذكر البدنة فيه منكر ، والظاهر أن ليثا إنما زادها غفلة وتخليطا لا عن قصد وعمد والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية