صفحة جزء
فائدة نختم بها الكتاب : قال النووي في شرح المهذب : فرع عن خارجة بن زيد بن ثابت آخر فقهاء المدينة السبعة قال : بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده سبعين ذراعا في ستين ذراعا أو يزيد ، قال أهل السير : جعل عثمان بن عفان طول المسجد مائة وستين ذراعا وعرضه في مقدمه مائتين وفي مؤخره ثمانين ، زاد فيه المهدي مائة ذراع من جهة الشام فقط مائة وخمسين ، وجعل أبوابه ستة ، كما كانت في زمن عمر ، وزاد فيه الوليد بن عبد الملك فجعل طوله مائتي ذراع ، وعرضه دون الجهات الثلاث ، هذا ما في شرح المهذب ، وأخرج ابن سعد في الطبقات عن الزهري ، قال : بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موضع المسجد وهو يومئذ يصلي فيه رجال من المسلمين ، وكان مربد السهل وسهيل - غلامين يتيمين من الأنصار - وكانا في حجر أبي أمامة أسعد بن زرارة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ابتاعه منهما ، فابتاعه بعشرة دنانير وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل الذي في الحديقة وبالغرقد الذي فيه أن يقطع ، وأمر باللبن فضرب ، وكان في المربد قبور جاهلية فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنبشت ، وأمر العظام أن تغيب ، وكان في المربد ماء مستحل فسيروه حتى ذهب وأسسوا المسجد فجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع ، وفي هذين الجانبين مثل ذلك فهو مربع ، ويقال : كان أقل من المائة وجعلوا الأساس قريبا من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة ، ثم بنوه باللبن وبناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وجعل ينقل معهم الحجارة بنفسه ، ويقول :


اللهم لا عيش إلا عيش الآخره فاغفر للأنصار والمهاجره

وجعل يقول :


هذا الحمال لا حمال خيبر     هذا أبرر بنا وأطهر

[ ص: 34 ] وجعل له ثلاثة أبواب : بابا في مؤخره ، وبابا يقال له باب الرحمة وهو الباب الذي يدعى باب عاتكة ، والباب الثالث الذي يدخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الباب الذي يلي آل عثمان ، وجعل طول الجدار بسطه وعمده الجذوع وسقفه جريدا ، فقيل له : ألا تسقفه ؟ فقال : عريش كعريش موسى خشيبات وتمام الشأن أعجل من ذلك ، وبنى بيوتا إلى جنبه باللبن وسقفها بجذوع النخل والجريد ، فلما فرغ من البناء بنى بعائشة في البيت الذي بابه شارع إلى المسجد ، وجعل سودة في البيت الآخر ، الذي يليه إلى الباب الذي يلي آل عثمان ، وأخرج الزبير بن بكار في أخبار المدينة عن مجمع بن يزيد قال : بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد مرتين ، بناه حين قدم أقل من مائة في مائة فلما فتح الله عليه خيبر بناه وزاد فيه مثله في الدور وضرب الحجرات ما بينه وبين القبلة ، وأخرج أيضا عن أنس قال : بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما بناه بالجريد ، وإنما بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين .

وأخرج البخاري عن ابن عمر أن المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيا باللبن وسقفه الجريد وعمده خشب النخل ، فلم يزد فيه أبو بكر شيئا وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد ، وأعاد عمده خشبا ، ثم غيرهعثمان فزاد فيه زيادة كثيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقصة ، وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج .

وقال الأقفهسي في تاريخ المدينة : قيل كان عرض الجدار في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لبنة ثم إن المسلمين لما كثروا بنوه لبنة ونصفا ، ثم قالوا يا رسول الله لو أمرت لزدنا ، فقال : نعم فزادوا فيه ، وبنوا جداره لبنتين مختلفتين ، ولم يكن له سطح فشكوا الحر ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقيم له سوار من جذوع ، ثم طرحت عليها العوارض والحصر والإذخر ، فأصابتهم الأمطار فجعل يكف عليهم ، فقالوا : يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فطين ، فقال : عريش كعريش موسى ، والأمر أعجل من ذلك . ولما زاد فيه عمر جعل طوله مائة وأربعين ذراعا وعرضه مائة وعشرين ذراعا ، وبدل أساطينه بأخر من جذوع النخل ، وسقفه بجريد ، وجعل طول السقف أحد عشر ذراعا ، وفرشه بالحصى ، ولما زاد فيه عثمان - وذلك في ربيع الأول سنة تسع وعشرين - جعل طوله مائة وستين ذراعا وعرضه مائة وخمسين ذراعا وجعل أبوابه ستة . ولما زاد فيه عمر بن عبد العزيز وذلك بأمر الوليد بن [ ص: 35 ] عبد الملك - وكان عامله على المدينة - جعل طوله ما تقدم عن شرح المهذب ، وجعل على كل ركن من أركانه الأربعة منارة للأذان ، وجعل له عشرين بابا وبنى على الحجرة الشريفة حائطا ، ولم يلصقه بجدار الحجرة ولا بالسقف ، وطوله مقدار نصف قامة بالآجر ، فلما حج سليمان بن عبد الملك هدم المنارة التي هي قبل المسجد من الغرب ; لأنها كانت مطلة على دار مروان فأذن المؤذن ، فأطل على سليمان ، وهو في الدار فأمر بهدمها ، ثم زاد فيه المهدي سنة إحدى وستين ومائة ، ولم يزد بعده أحد شيئا ، ثم عمر الخليفة الناصر سنة ست وسبعين وخمسمائة في صحنه قبة لحفظ حواصل الحرم وذخائره ، ثم احترق المسجد الشريف بالنار التي خرجت من الحرة في ليلة الجمعة أول شهر رمضان سنة أربع وخمسين وستمائة ، فكتب بذلك إلى الخليفة المستعصم فأرسل الصناع والآلات مع حجاج العراق سنة خمس وخمسين وستمائة ، فسقفوا في هذه السنة الحجرة الشريفة وما حولها إلى الحائط القبلي والشرقي إلى باب جبريل ، وسقفوا الروضة الشريفة إلى المنبر ، ثم قتل الخليفة سنة ست وخمسين واستولى التتار على بغداد ، فوصلت الآلات من صاحب اليمن الملك المظفر يوسف بن عمر بن رسول ، فعمل إلى باب السلام ، ثم عمل من باب السلام إلى باب الرحمة من سنة ثمان وخمسين من جهة صاحب مصر الملك المظفر قطز المعزي ، ثم انتقل الملك آخر هذه السنة إلى الملك الظاهر بيبرس الصالحي ، فعمل في أيامه باقي المسجد وجعلت الأبواب أربعة ، ثم لما حج سنة سبع وستين أراد أن يدير على الحجرة الشريفة داربزينا من خشب ، فقاس ما حولها بيده ، وأرسله سنة ثمان وستين وعمل له ثلاثة أبواب وطوله نحو مائتين ، ثم في سنة ثمان وسبعين في أيام الملك المنصور قلاوون عملت القبة على الحجرة الشريفة ، ثم في سنة أربع وتسعين في أيام الملك العادل كتبغا زيد في الداربزين الذي على الحجرة حتى وصل بسقف المسجد الشريف ، ثم في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون في سنة إحدى وسبعمائة جدد سقف الرواق الذي فيه الروضة الشريفة ، ثم جدد السقف الشرقي والغربي في سنة خمس وسبعمائة ، ثم أمر بعمارة المنارة الرابعة مكان التي هدمها سليمان بن عبد الملك فعمرت سنة ست وسبعمائة ، ثم أمر بإنشاء الرواقين في صحن المسجد من جهة القبلة في سنة تسع وعشرين وسبعمائة ، ثم في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون جددت القبة التي على الحجرة الشريفة ، ثم أحكمت في أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون سنة خمس وستين وسبعمائة بأن سمر عليها ألواحا من [ ص: 36 ] خشب ومن فوقها ألواح الرصاص ، ثم في أيام سلطان العصر الملك الأشرف قايتباي في شهر رمضان سنة ست وثمانين وثمانمائة عمر قبة أخرى وأشياء في المسجد ، ثم أعقب ذلك نزول صاعقة من السماء فأحرقت المسجد بأسره ، وذلك في ليلة ثالث عشر رمضان سنة ست وثمانين ، فأرسل السلطان الصناع والآلات سنة سبع وثمانين وعليهم الخواجا شمس الدين بن الزمن ، فهدم الحائط القبلية ، وأراد أن يبني بجوار المسجد مدرسة باسم السلطان ويجعل الحائط مشتركا بين المسجد والمدرسة ، ويفتح فيه بابا يدخل منه إلى المسجد ، وشبابيك مطلة عليه ، فمنعه جماعة من أهل المدينة ، فأرسل يطلب مرسوما من السلطان بذلك فبلغه منع أهل المدينة ، فقال : استفتوا العلماء ، فأفتاه القضاة الأربعة وجماعة بالجواز ، وامتنع آخرون من ذلك ، وجاءني المستفتي يوم الأحد رابع عشري رجب من السنة المذكورة فجمعت الأحاديث المصدر بها ، وأرسلتها لقاضي القضاة الشافعي ، فذكر أنه يرى اختصاصها بالجدار النبوي وقد أزيل ، وهذا الجدار ملك السلطان يفتح فيه ما شاء ، ولا يصير وقفا إلا بوقفه ، فذكرت الجواب عن ذلك من تسعة وعشرين وجها ، وألحقتها بالأحاديث مع ما ذكر معها وأفردتها تأليفا ، ورأيت ليلة الثلاثاء سادس عشري رجب في المنام النبي صلى الله عليه وسلم وهو في همة وأنا واقف بين يديه فأرسلني لا أدري إلى عمر أو غيره ، ولا أدري هل أرسلني إليه لأدعوه أو لأبلغه رسالة ، ولم أضبط من المنام إلا هذا القدر ، فاستيقظت وأنا أرجو أن لا يتم لهم ما أرادوه ، ثم برز مرسوم السلطان بالفتح حسبما أفتاه من أفتاه ، وسافر القاصد بذلك في أواخر رجب وأرسل إلى رجلان من كبار أرباب الأحوال يخبراني أن هذا الأمر لا يتم ففي رمضان جاء الخبر بأن ذلك قد رجع عنه ، وعدلوا إلى الفتح من الجهة الغربية ، وأفتى بعض الحنفية بجواز ذلك لأن دار أبي بكر رضي الله عنه كانت من تلك الجهة ، وكان له باب مفتوح فيفتح نظيره فوجب النظر في ذلك .

فأقول : قد ثبت في الأحاديث السابقة وقرر العلماء أن أبا بكر رضي الله عنه لم يؤذن له في فتح الباب بل أمر بسد بابه ، وإنما أذن له في خوخة صغيرة وهي المرادة في حديث البخاري ، فلا يجوز الآن فتح باب كبير قطعا ، وليس لأحد أن يقول إن المعنى الاستطراق فيستوي الباب والخوخة في الجواز ، لأن النص من الشارع صلى الله عليه وسلم على التفرقة حيث أمر بسد بابه وأبقى خوخته يمنع من التسوية والإلحاق ، وأما جواز فتح الخوخة الآن فأقول : لو بقيت دار أبي بكر واتفق هدمها وإعادتها أعيدت بتلك الخوخة ، كما كانت بلا مرية ، وكان يجب مع ذلك أن يعاد مثل تلك الخوخة قدرا [ ص: 37 ] ومحلا ، فلا تجوز الزيادة فيها بالتوسعة ، ولا جعلها في موضع آخر من الحائط اقتصارا على ما ورد الإذن من الشارع الواقف فيه ، لكن دار أبي بكر هدمت وأدخلت في المسجد زمن عثمان ، وهل يجوز أن يبنى بإزائها دار يفتح منها خوخة نظير ذلك ؟ فيه نظر وتوقف فيحتمل المنع وهو الأقرب ; لأن تلك خصيصة كانت لأبي بكر فلا تتعدى داره ، ويحتمل الجواز لأمرين :

أحدهما : أن حق المرور قد ثبت من هذه البقعة التي بإزاء دار أبي بكر إلى المسجد بواسطة دار أبي بكر فيستمر .

والثاني : لا أبديه خوفا أن يتمسك به المتوسعون .

وعلى الاحتمال فإنما يجوز بشرطين يتعذر الآن وجودهما أن يكون الذي يفتح بقدر تلك الخوخة لا أوسع منه ، وأن يكون على سمتها لا في محل آخر ، والأمران لا يمكن الوقوف عليهما الآن للجهل بمقدار تلك الخوخة ومحلها ، وإذا لم يتحقق وجود الشرط امتنع المشروط ، فتلخص من ذلك القطع بالمنع من الخوخة ومن الشبابيك أيضا ، وبتحقق وجود الشرطين يجاب عن الأمر الثاني الذي رمزت إليه ، ولم أبده إن عثر عليه عاثر ، هذا ما عندي في ذلك .

خاتمة : وأما كسوة الحجرة الشريفة ، فأول من كساها ابن أبي الهيجاء وزير ملك مصر ، بعد أن استأذن الخليفة المستضيء فكساها ديباجا أبيض ، ثم بعد سنتين أرسل الخليفة المستضيء كسوة ديباجا بنفسجيا ، ثم أرسل الخليفة الناصر لما ولي كسوة من الديباج الأسود ، ثم لما حجت أم الخليفة وعادت أرسلت كسوة كذلك ، ثم صارت ترسل الكسوة من جهة مصر كل سبع سنين من الديباج الأسود . ذكر ذلك الأقفهسي .

التالي السابق


الخدمات العلمية