صفحة جزء
مسألة : ذكر ذاكر أن أكثر قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة كانت بقراءة نافع ، وهذا شيء لا أصل له البتة بل كان يقرأ بجميع الأحرف المنزلة عليه ، وكيف ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمر لم يروه عنه أحد من الصحابة ، ولا خرجه أحد من أئمة الحديث في كتبهم لا بإسناد صحيح ولا بإسناد غير صحيح ، ثم إن هذا أمر لا يعرف لا من جهة الصحابة الذين سمعوا قراءته والذي روى عنهم أنهم قالوا قرأ بسورة كذا [ أو بسورة كذا ] ، ولم يقولوا في روايتهم قرأ السورة الفلانية بلفظ كذا ولفظ كذا حتى تطابق تلك الألفاظ فتوجد موافقة لقراءة نافع ، ولو ثبت هذا الكلام عند الإمام مالك رضي الله عنه لكان أول قائل بقراءة البسملة في الصلاة ; لأن البسملة ثابتة في قراءة قالون عن نافع ، ولم يثبت عند مالك أنه صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في الصلاة ، فهذا يدل على أنه لم يثبت عنده أنه كان أكثر قراءته بقراءة نافع ، وما كل حديث وجد مقطوعا بغير سند في كتاب يجوز الاعتماد عليه حتى يثبت تخريجه في كتاب حافظ بسند متصل صحيح ، وكم في الكتب من أحاديث لا أصل لها ثم تبين أن هذا النقل لا وجود له ، وأن الذي نقله القرافي في الذخيرة أنه تستحب القراءة بتسهيل الهمزة ; لأن ذلك لغة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا كلام في غاية الحسن لا غبار عليه ; لأن العلماء أجمعوا على أن لغة النبي صلى الله عليه وسلم لغة قريش ، ولغة قريش عدم تحقيق الهمز فيكون ذلك لغة النبي صلى الله عليه وسلم صحيح ، ولكن ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر قراءته في الصلاة بقراءة نافع ، ولا روى هذا أحد من الصحابة البتة ولا خرجه أحد من أئمة الحديث ، بل ولا في هذا دلالة على أنه كان أكثر قراءته بتسهيل ، أكثر ما فيه أنه دل على أن ذلك لغته من غير قدر زائد على ذلك ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقرأ بجميع ما أنزل عليه بتسهيل الهمز الذي هو لغته ، وبتحقيق الهمز الذي هو لغة غير قريش ، وبترك الإمالة الذي هو لغة الحجاز ، وبالإمالة التي هي لغة تميم ، وذكر الأكثرية تحتاج إلى نصر من الصحابة مخرج في كتاب معتبر بإسناد متصل صحيح ، ولا وجود لذلك البتة ، وذكر أن القراءة بالترقيق في الصلاة مكروهة ; لأنها تذهب الخشوع وليس كذلك ; لأن المكروه ما ورد فيه نهي خاص ، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك نهي ، وقوله : إنها تذهب الخشوع ممنوع ; لأنه [ ص: 131 ] إن كان ذلك من جهة الفكر في أداء تلك الهيئة ; فجميع هيئات الأداء كذلك ، والفكر في أداء ألفاظ القرآن على الهيئة التي أنزل عليها لا ينافي الخشوع ; لأنه من أمور العبادة والدين ، وإنما ينافي الخشوع الفكر في الأمور الدنيوية لا الدينية ولا الأخروية - نصوا عليه - ثم إن المكروه عند الأصوليين من قسم القبيح كما أن المندوب عندهم من قسم الحسن ، ولا يوصف شيء من القرآن بالقبح ، فإن قال قائل : قد ذهب جماعة إلى أن بعض القرآن أفضل من بعض ، قلنا : مع اتفاقهم على أن الكل يقرأ ولا يقول أحد بأن غير الأفضل تكره قراءته ، هذا لا يتوهمه أحد ، ثم إن قراءة القرآن بالأحرف الثابتة في السبعة فرض كفاية بالإجماع ، فكيف يتخيل أن يوصف ما هو فرض كفاية بأنه مكروه ؟

ثم تبين أن هذا النقل لا وجود له ، وأن الذي نقله القرافي في الذخيرة وكره مالك الترقيق والتفخيم والروم والإشمام في الصلاة ; لأنها تشغل عن أحكام الصلاة ، وليس المراد بهذه الكراهة التي هي أقسام الأحكام الخمسة التي يصفها الأصوليون بأنها داخلة في قسم القبيح كالحرام ، بل الكلام في كلام الأئمة المجتهدين كمالك والشافعي لها إطلاقان :

أحدهما هذا ويعبر عنها بالكراهة الشرعية .

والآخر بمعنى : أن المجتهد أحب واختار أن لا يفعل ذلك من غير إدخاله في قسم المكروه الذي هو من نوع القبيح ، ويعبر عن هذه بالكراهة الإرشادية وهذه الكراهة لا ثواب في تركها ولا قبح في فعلها .

وقد ذكر أصحابنا ذلك في قول الشافعي : وأنا أكره المشمس من جهة الطب ، فاختلفوا هل هذه الكراهة شرعية يثاب فيها أو إرشادية لا ثواب فيها ؟ على وجهين ، وقال الشافعي : وأنا أكره الإمامة ; لأنها ولاية وأنا أكره سائر الولايات ، فليس مراد الشافعي بذلك الكراهة التي هي أحد أقسام الحكم الخمسة الداخلة في قسم القبيح ، كيف والإمامة فرض كفاية ; لأن بها تنعقد الجماعة التي هي فرض كفاية ، والرافعي يقول : إنها أفضل من الأذان وفي كل منهما فضل وذلك مناف للكراهة قطعا ، وإنما مراد الشافعي أنه لا يحب الدخول فيها ولا يختاره للمعنى الذي ذكره فهي كراهة إرشادية لا شرعية ، فلو فعلها لم يوصف فعله بقبح بل هو آت بعبادة فيها فضل إجماعا ، إما فضل يزيد على فضل الآذان كما هو رأي الرافعي ، أو ينقص عنه كما هو رأي النووي ، ولو كانت الإمامة مكروهة كراهة شرعية لم يكن فيها فضل البتة ; لأن الكراهة والثواب لا يجتمعان ، وكذلك قول القرافي ، وكره مالك ما ذكر معناه أنه أحب واختار أن لا يفعل ذلك للمعنى الذي ذكره فهو أمر إرشادي ، وليس مراده الكراهة التي يدخل متعلقها في قسم القبيح ، معاذ الله هذا لا يظن بمن هو دون [ ص: 132 ] مالك بكثير فضلا عن هذا الإمام الجليل إمام دار الهجرة وإمام أهل المشرق والمغرب رضي الله عنه وعنا به .

التالي السابق


الخدمات العلمية