صفحة جزء
فصل : لما فرغت من تأليف هذه الكراسة واضطجعت على الفراش للنوم ورد علي قوله تعالى : ( الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين ) فكأنما ألقي علي جبل ، فإن هذه الآية ظاهرها الدلالة للقول بعدم الخصوصية ، وقد فكرت فيها ساعة ولم يتجه لي شيء ، فلجأت إلى الله تعالى ورجوت أن يفتح بالجواب عنها ، فلما استيقظت وقت السحر إذا بالجواب قد فتح ، فظهر لي عنها ثلاثة أجوبة : الأول : أن الوصف في قوله : " مسلمين " اسم فاعل مراد به الاستقبال كما هو حقيقة فيه لا الحال ولا الماضي الذي هو مجاز ، والتمسك بالحقيقة هو الأصل ، وتقدير الآية إنا كنا من قبل مجيئه عازمين على الإسلام به إذا جاء لما كنا نجده في كتبنا من نعته ووصفه ، ونظيره قوله تعالى : ( إنك ميت وإنهم ميتون ) فالوصفان مراد بهما الاستقبال أي ستموت وسيموتون ، وليس المراد بهما الحال قطعا كما هو ظاهر ، فكذلك المراد في الآية : إنا كنا من قبله ناوين أن سنسلم إذا جاء ، ويرشح هذا الجواب أن السياق يرشد إلى أن قصدهم الإخبار بحقيقة القرآن وأنهم كانوا على قصد الإسلام به إذا جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لما كان عندهم من صفاته وظهر لهم من دنو زمانه واقتراب بعثته ، وليس قصدهم الثناء على أنفسهم في حد ذاتهم بأنهم كانوا بصفة الإسلام أو لا فإن ذلك ينبو عنه المقام كما لا يخفى .

الجواب الثاني : أن يقدر في الآية : إنا كنا من قبله به مسلمين ، فوصف الإسلام سببه القرآن لا التوراة والإنجيل ، ويرشح ذلك ذكر الصلة في الآية الأولى حيث قال : " هم به يؤمنون " فدل على أن الصلة مرادة في الثانية أيضا ، وإنما حذفت كراهة لتكرارها في الآية [ ص: 153 ] مرتين ، حيث ذكرت في قوله : ( قالوا آمنا به ) وكره إعادتها مرة أخرى في الآية ، وحذفت إزالة لتعلق التكرار .

الجواب الثالث : أن هذا الوصف منهم بناء على مذهب الأشعري من أن من كتب الله أنه يموت مؤمنا فهو يسمى عند الله مؤمنا ولو في حالة كفر سبقت ، وكذا بالعكس والعياذ بالله ، وإنما لم يطلق عليه هذا الوصف عندنا لعدم علمنا بالخواتم والمستقبلات ، فكذلك هؤلاء لما ختم لهم بالدخول في الإسلام وصفوا أنفسهم به من أول أمرهم ; لأن العبرة في هذا الوصف بالخاتمة ، وإذا كان الكافر المشرك يوصف في حال شركه بأنه مؤمن عند الأشعري لما قدر له من الإيمان عند الخاتمة ، فلأن يوصف بالإسلام [ من كان على دين حق لما قدر له من الدخول في الإسلام ] عند الخاتمة من باب أولى ، وهذا معنى دقيق استفدناه في هذه الآية من قواعد علم الكلام ، وبهذا يعرف أن من لم يتقن العلوم كلها ويطلع على مذاهب علماء الأمة ومداركها وقواعدها لم يمكنه استدلال ولا استنباط ، وهذا أمر ليس بالهين :


لا تحسب المجد تمرا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا



فصل : حيث ذكر الله هذه الأمة في القرآن ذكرها بالإسلام أو الإيمان خطابا وغيبة ، كقوله : ( هو سماكم المسلمين ) ، ( ياأيها الذين آمنوا ) ، ( أيها المؤمنون ) . وحيث ذكر الأمم السابقة لم يصفهم قط بإسلام لا إن ذمهم ولا إن مدحهم بل [ قال ] : ( إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين ) ، وقال : ( قل ياأيها الذين هادوا إن زعمتم ) . وقال : ( يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا ) وقال : ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا ) الآيات . فهذه الآية ذكرت مدحا لمؤمني النصارى ولم يسمهم مسلمين بل قال : ( الذين قالوا إنا نصارى ) ، وقال في غير آية عند مدح المؤمنين منهم ومن اليهود : ( الذين آتيناهم الكتاب ) ، [ ص: 154 ] ( وإن من أهل الكتاب ) ، فأكثر ما أطلق عليهم عند المدح وصفهم بأنهم أوتوا الكتاب ، ومن أهل الكتاب هذا في كتابنا ، وأما كتبهم فوصف فيها هذه الأمة بالإسلام كما قال : ( هو سماكم المسلمين من قبل ) ، قال سفيان بن عيينة : أي في التوراة والإنجيل ولم يصفهم فيها بالإسلام البتة ، أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن خيثمة قال : ما تقرءون في القرآن : " ياأيها الذين آمنوا " فإنه في التوراة يا أيها المساكين .

التالي السابق


الخدمات العلمية