صفحة جزء
وقال صاحب [ كتاب ] معيار المريدين : اعلم أن منشأ أغلاط الفرق التي غلطت في الاتحاد والحلول جهلهم بأصول الدين وفروعه وعدم معرفتهم بالعلم ، وقد وردت الأحاديث والآثار بالتحذير من عابد جاهل ، فمن لا يكون له سابقة علم لم ينتج ولم [ ص: 161 ] يصح له سلوك ، وقد قال سهل بن عبد الله التستري : اجتنب صحبة ثلاثة أصناف من الناس الجبابرة الغافلين والقراء المداهنين والمتصوفة الجاهلين ، فافهم ولا تغلط فإن الدين واضح قال : واعلم أنه وقع في عبارة بعض المحققين لفظ الاتحاد إشارة منهم إلى حقيقة التوحيد ، فإن الاتحاد عندهم هو المبالغة في التوحيد ، والتوحيد معرفة الواحد والأحد فاشتبه ذلك على من لا يفهم إشاراتهم فحملوه على غير محمله فغلطوا وهلكوا بذلك ، والدليل على بطلان اتحاد العبد مع الله تعالى أن الاتحاد بين مربوبين محال ، فإن رجلين مثلا لا يصير أحدهما عين الآخر لتباينهما في ذاتيهما كما هو معلوم ، فالتباين بين العبد والرب سبحانه وتعالى أعظم ، فإذن أصل الاتحاد باطل محال مردود شرعا وعقلا وعرفا بإجماع الأنبياء والأولياء ومشايخ الصوفية وسائر العلماء والمسلمين ، وليس هذا مذهب الصوفية وإنما قاله طائفة غلاة لقلة علمهم وسوء حظهم من الله تعالى ، فشابهوا بهذا القول النصارى الذين قالوا في عيسى عليه السلام اتحد ناسوته بلاهوته ، وأما من حفظه الله تعالى بالعناية فإنهم لم يعتقدوا اتحادا ولا حلولا ، وإن وقع منهم لفظ الاتحاد فإنما يريدون به محو أنفسهم وإثبات الحق سبحانه ، قال : وقد يذكر الاتحاد بمعنى فناء المخالفات وبقاء الموافقات ، وفناء حظوظ النفس من الدنيا وبقاء الرغبة في الآخرة ، وفناء الأوصاف الذميمة ، وبقاء الأوصاف الحميدة ، وفناء الشك وبقاء اليقين ، وفناء الغفلة وبقاء الذكر . قال : وأما قول أبي يزيد البسطامي : سبحاني ما أعظم شاني ، فهو في معرض الحكاية عن الله ، وكذلك قول من قال أنا الحق محمول على الحكاية ، ولا يظن بهؤلاء العارفين الحلول والاتحاد ; لأن ذلك غير مظنون بعاقل ، فضلا عن المتميزين بخصوص المكاشفات واليقين والمشاهدات ، ولا يظن بالعقلاء المتميزين على أهل زمانهم بالعلم الراجح والعمل الصالح والمجاهدة وحفظ حدود الشرع الغلط بالحلول والاتحاد كما غلط النصارى في ظنهم ذلك في حق عيسى عليه السلام ، وإنما حدث ذلك في الإسلام من واقعات جهلة المتصوفة ، وأما العلماء العارفون المحققون فحاشاهم من ذلك . هذا كله كلام معيار المريدين بلفظه ، والحاصل أن لفظ الاتحاد مشترك فيطلق على المعنى المذموم الذي هو أخو الحلول وهو كفر ، ويطلق على مقام الفناء اصطلاحا - اصطلح عليه الصوفية - ولا مشاحة في الاصطلاح ، إذ لا يمنع أحد من استعمال لفظ في معنى صحيح لا محذور فيه شرعا ، ولو كان ممنوعا لم يجز لأحد أن يتفوه بلفظ الاتحاد وأنت تقول بيني وبين صاحبي زيد اتحاد ، وكم استعمل [ ص: 162 ] المحدثون والفقهاء والنحاة وغيرهم لفظ الاتحاد في معان حديثية وفقهية ونحوية ، كقول المحدثين : اتحاد مخرج الحديث ، وقول الفقهاء : اتحد نوع الماشية ، وقول النحاة : اتحد العامل لفظا أو معنى ، وحيث وقع لفظ الاتحاد من محققي الصوفية فإنما يريدون به معنى الفناء الذي هو محو النفس وإثبات الأمر كله لله سبحانه ، لا ذلك المعنى المذموم الذي يقشعر له الجلد ، وقد أشار إلى ذلك سيدي علي بن وفا فقال من قصيدة له :


يظنوا بي حلولا واتحادا وقلبي من سوى التوحيد خالي

فتبرأ من الاتحاد بمعنى الحلول وقال من أبيات أخر :


وعلمك أن هذا الأمر أمري     هو المعنى المسمى باتحاد

فذكر أن المعنى الذي يريدونه بالاتحاد إذا أطلقوه هو تسليم الأمر كله لله ، وترك الإرادة معه ، والاختيار والجري على مواقع أقداره من غير اعتراض ، وترك نسبة شيء ما إلى غيره .

وقال صاحب كتاب نهج الرشاد في الرد على أهل الوحدة والحلول والاتحاد : حدثني الشيخ كمال الدين المراغي عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد أنه قال له مرة : الكفار إنما انتشروا في بلادكم لانتشار الفلسفة هناك ، وقلة اعتنائهم بالشريعة والكتاب والسنة ، قال : فقلت له : في بلادكم ما هو شر من هذا ، وهو قول الاتحادية ، فقال : هذا لا يقوله عاقل ، فإن قول هؤلاء كل أحد يعرف فساده ، قال : وحدثني الشيخ كمال الدين المذكور قال : اجتمعت بالشيخ أبي العباس المرسي تلميذ الشيخ الكبير أبي الحسن الشاذلي وفاوضته في هؤلاء الاتحادية ، فوجدته شديد الإنكار عليهم والنهي عن طريقهم ، وقال : أتكون الصنعة هي الصانع ؟ انتهى ، قلت : ولهذا كانت طريقة الشاذلي هي أحسن طرق التصوف ، وهي في المتأخرين نظير طريقة الجنيد في المتقدمين ، وقد قال الشيخ تاج الدين بن السبكي في كتاب جمع الجوامع : وإن طريق الشيخ الجنيد وصحبه طريق مقوم ، وكان والده شيخ الإسلام تقي الدين السبكي يلازم مجلس الشيخ تاج الدين بن عطاء الله يسمع كلامه ووعظه ، ونقل عنه في كتابه المسمى غيرة الإيمان [ ص: 163 ] الجلي فائدة حسنة في حديث : " لا تسبوا أصحابي " فقال : إنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له تجليات فرأى في بعضها سائر أمته الآتين من بعده فقال مخاطبا لهم : لا تسبوا أصحابي ، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه وارتضى السبكي منه هذا التأويل وقال : إن الشيخ تاج الدين كان متكلم الصوفية في عصره على طريق الشاذلية ، انتهى .

قلت : وهو تلميذ الشيخ أبي العباس المرسي ، والشيخ أبو العباس تلميذ الشاذلي ، وقد طالعت كلام هؤلاء السادة الثلاثة فلم أر فيه حرفا يحتاج إلى تأويل فضلا عن أن يكون منكرا صريحا ، وما أحسن قول سيدي علي بن وفا :

تمسك بحب الشاذلية تلق ما     تروم وحقق ذا الرجاء وحصل
ولا تعدون عيناك عنهم فإنهم     شموس هدى في أعين المتأمل

ثم قال صاحب نهج الرشاد : وما زال عباد الله الصالحون من أهل العلم والإيمان ينكرون حال هؤلاء الاتحادية ، وإن كان بعض الناس قد يكون أعلم وأقدر وأحكم من بعض في ذلك ، وقال الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد : وأما المنتمون إلى الإسلام فمنهم بعض غلاة الشيعة القائلون بأنه لا يمتنع ظهور الروحاني في الجسماني كجبريل في صورة دحية الكلبي ، وكبعض الجن أو الشياطين في صورة الأناسي قالوا : فلا يبعد أن يظهر الله تعالى في صورة بعض الكاملين ، وأولى الناس بذلك علي وأولاه ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، قال : ومنهم بعض المتصوفة القائلون بأن السالك إذا أمعن في السلوك وخاض معظم لجة الوصول فربما يحل الله فيه ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، كالنار في الجمر بحيث لا يتمايز أو يتحد به بحيث لا اثنينية ولا تغاير ، وصح أن يقول هو أنا وأنا هو ، قال : وفساد الرأيين غني عن البيان ، قال : وهاهنا مذهبان آخران يوهمان الحلول أو الاتحاد وليسا منه في شيء ، الأول : أن السالك إذا انتهى سلوكه إلى الله وفي الله يستغرق في بحر التوحيد والعرفان بحيث تضمحل ذاته في ذاته تعالى ، وصفاته في صفاته ، وتغيب عن كل ما سواه ، ولا يرى في الوجود إلا الله تعالى ، وهذا هو الذي يسمونه الفناء في التوحيد ، وحينئذ ربما تصدر عنه عبارات تشعر بالحلول أو الاتحاد لقصور العبارة عن بيان تلك الحال وبعد الكشف عنها بالمقال ، ونحن على ساحل التمني نغترف من بحر التوحيد بقدر الإمكان ، ونعترف بأن طريق الفناء فيه العيان دون البرهان والله الموفق .

ثم ذكر في المذهب الثاني وهو القول بالوحدة المطلقة [ وقال : إنه غير الحلول والاتحاد ، وإنه أيضا خارج عن طريق العقل [ ص: 164 ] والشرع ، وإنه باطل وضلال ، وقد سقت بقية كلامه فيه في الكتاب الذي ألفته في ذم القول بالوحدة المطلقة ، فإنه به أجدر ، وذكر السيد الجرجاني في شرح المواقف نحو ذلك ، وقد سقت أيضا عبارته في الكتاب المشار إليه .

وقال العلامة شمس الدين بن القيم في كتابه شرح منازل السائرين : الدرجة الثالثة من درجات الفناء فناء خواص الأولياء وأئمة المقربين ، وهو الفناء عن إرادة السوى ، شائما برق الفنا عن إرادة ما سواه ، سالكا سبيل الجمع على ما يحبه ويرضاه ، فانيا بمراد محبوبه منه عن مراده هو من محبوبه ، فضلا عن إرادة غيره ، قد اتخذ مراده بمراد محبوبه أعني المراد الديني الأمري لا المراد الكوني القدري ، فصار المرادان واحدا قال : وليس في العقل اتحاد صحيح إلا هذا ، والاتحاد في العلم والخبر ، فيكون المرادان والمعلومان والمذكوران واحدا مع تباين الإرادتين والعلمين والخبرين ، فغاية المحبة اتحاد مراد المحب بمراد المحبوب ، وفناء إرادة المحب في مراد المحبوب ، فهذا الاتحاد والفناء هو اتحاد خواص المحبين وفناؤهم ، قد فنوا بعبادته عن عبادة ما سواه وبحبه وخوفه ورجائه والتوكل عليه والاستعانة به والطلب منه عن حب ما سواه ، ومن تحقق بهذا الفناء لا يحب إلا في الله ، ولا يبغض إلا فيه ، ولا يوالي إلا فيه ، ولا يعادي إلا فيه ، ولا يعطي إلا لله ، ولا يمنع إلا لله ، ولا يرجو إلا إياه ، ولا يستعين إلا به ، فيكون دينه كله ظاهرا لله ، ويكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، فلا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب الخلق إليه بل :


يعادي الذي عادى من الناس كلهم     جميعا ولو كان الحبيب المصافيا

وحقيقة ذلك فناؤها عن هوى نفسه وحظوظها بمراضي ربه تعالى وحقوقه ، والجامع لهذا كله تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله علما ومعرفة وعملا وحالا وقصدا ، وحقيقة هذا النفي والإثبات الذي تضمنته هذه الشهادة هو الفناء والبقاء ، ففنى عن تأله ما سواه علما وإفرادا وتعمدا ، وبقي تألهه وحده ، فهذا الفناء وهذا البقاء هو حقيقة التوحيد الذي اتفق عليه المرسلون صلوات الله عليهم ، وأنزلت به الكتب وخلقت لأجله الخليقة ، وشرعت له الشرائع وقامت عليه سوق الجنة وأسس عليه الخلق والأمر ، إلى أن [ ص: 165 ] قال : وهذا الموضع مما غلط فيه كثير من أصحاب الإرادة ، والمعصوم من عصمه الله والله المستعان .

وقال في موضع آخر : وإن كان مشمرا للفناء العالي وهو الفناء عن إرادة السوى لم يبق في قلبه مراد يزاحم مراده الديني الشرعي النبوي القرآني ، بل يتحد المرادان فيصير عين مراد الرب تعالى هو عين مراد العبد ، وهذا حقيقة المحبة الخالصة وفيها يكون الاتحاد الصحيح ، وهو الاتحاد في المراد لا في المريد ولا في الإرادة ، قال : فتدبر هذا الفرقان في هذا الموضع الذي طالما زلت فيه أقدام السالكين وضلت فيه أفهام الواحدين ، انتهى .

وقد تكرر كلام ابن القيم في هذا الكتاب في تضليل الاتحادية والقائلين بالوحدة المطلقة ، وقد سقت منه أشياء في كتابي الذي أشرت إليه فلينظر منه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية