صفحة جزء
الوجه الثاني : المقرر في فن الحديث والأصول أن ما روي مما لا مجال للرأي فيه كأمور البرزخ والآخرة فإن حكمه الرفع لا الوقف ، وإن لم يصرح الراوي بنسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال العراقي في الألفية :


وما أتى عن صاحب بحيث لا يقال رأيا حكمه الرفع على     ما قال في المحصول نحو من أتى
فالحاكم الرفع لهذا أثبتا

وقال في شرحها : ما جاء من صحابي موقوفا عليه ومثله لا يقال الرأي حكمه حكم المرفوع ، كما قال الإمام فخر الدين في " المحصول " فقال : إذا قال الصحابي قولا ليس للاجتهاد فيه مجال فهو محمول على السماع تحسينا للظن به ،كقول ابن مسعود : من أتى ساحرا أو عرافا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، ترجم عليه الحاكم في علوم الحديث : معرفة المسانيد التي لا يذكر سندها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ومثال ذلك ، فذكر ثلاثة أحاديث هذا أحدها ، وما قاله في المحصول موجود في كلام غير واحد من الأئمة كأبي عمر بن عبد البر وغيره ، وقد أدخل ابن عبد البر في كتابه " التقصي " عدة أحاديث ذكرها مالك في " الموطأ " موقوفة مع أن موضوع الكتاب لما في " الموطأ " من الأحاديث المرفوعة ، منها حديث سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف ، وقال في " التمهيد " : هذا الحديث موقوف على سهل في " الموطأ " عند جماعة الرواة عن مالك . قال : ومثله لا يقال من جهة الرأي . انتهى كلام العراقي في " شرح الألفية " .

وقال الحافظ أبو الفضل بن حجر في " شرح النخبة " : مثال المرفوع من القول حكما ما يقوله الصحابي مما لا مجال للاجتهاد فيه ، ولا تعلق له ببيان لغة أو شرح غريب ، كالإخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق وأخبار الأنبياء ، أو الآتية كالملاحم والفتن وأحوال يوم القيامة ، وكذا الإخبار عما يحصل بفعله ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص ، قال : وإنما كان له حكم المرفوع ؛ لأن إخباره بذلك يقتضي مخبرا له ، وما لا مجال للاجتهاد فيه يقتضي موقفا للقائل به ، ولا موقف للصحابة إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان كذلك فله حكم ما لو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو مرفوع ، مثال المرفوع من الفعل حكما أن يفعل الصحابي ما لا مجال للاجتهاد فيه ، فينزل على أن ذلك عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال الإمام الشافعي رضي [ ص: 218 ] الله عنه في صلاة علي في الكسوف في كل ركعة أكثر من ركوعين . انتهى كلام شارح النخبة .

وقال الحافظ ابن حجر في نكته على ابن الصلاح : ما قاله الصحابي مما لا مجال للاجتهاد فيه فحكمه الرفع ، كالإخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق ، وقصص الأنبياء ، وعن الأمور الآتية كالملاحم ، والفتن ، والبعث ، وصفة الجنة والنار ، والإخبار عن عمل يحصل به ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص ، فهذه الأشياء لا مجال للاجتهاد فيها فيحكم لها بالرفع .

قال أبو عمرو الداني : قد يحكي الصحابي قولا يوقفه ، فيخرجه أهل الحديث في المسند لامتناع أن يكون الصحابي ما قاله إلا بتوقف ، كما روى أبو صالح السمان عن أبي هريرة قال : نساء كاسيات عاريات ، مائلات مميلات ، لا يجدن عرف الجنة الحديث ؛ لأن مثل هذا لا يقال بالرأي ، فيكون من جملة المسند .

قال الحافظ ابن حجر : وهذا هو معتمد خلق كثير من كبار الأئمة كصاحبي الصحيح ، والإمام الشافعي ، وأبي جعفر الطبري ، وأبي جعفر الطحاوي ، وأبي بكر بن مردويه في تفسيره المسند ، والبيهقي ، وابن عبد البر في آخرين ، قال : وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على أنه مسند ، وبذلك جزم الحاكم في علوم الحديث ، والإمام فخر الدين في المحصول انتهى .

وعبارة المحصول : إذا قال الصحابي قولا لا مجال للاجتهاد فيه حمل على السماع ؛ لأنه إذا لم يكن من محل الاجتهاد فلا طريق إلا السماع من النبي صلى الله عليه وسلم ، انتهى .

وقال الحافظ أبو الفضل العراقي في " شرح الترمذي " : ما رواه المصنف عن عمر بن الخطاب أن الدعاء موقوف بين السماء والأرض ، لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك ، هو وإن كان موقوفا عليه ، فمثله لا يقال من قبل الرأي ، وإنما هو أمر توقيفي ، فحكمه حكم المرفوع كما صرح به جماعة من الأئمة وأهل الحديث والأصول ، فمن الأئمة الشافعي رضي الله عنه ، ونص عليه في بعض كتبه كما نقل عنه ، ومن أهل الحديث أبو عمر بن عبد البر ، فأدخل في " كتاب التقصي " أحاديث من أقوال الصحابة ، مع أن موضوع كتابه للأحاديث المرفوعة ، من ذلك حديث سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف ، وقال في " التمهيد " : هذا الحديث موقوف على سهل في " الموطأ " عند جماعة الرواة عن مالك ، ومثله لا يقال من جهة الرأي ، وكذلك فعل الحاكم أبو عبد الله في كتابه في علوم [ ص: 219 ] الحديث ، فقال في النوع السادس من معرفة الحديث : معرفة المسانيد التي لا يذكر سندها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم روى فيه ثلاثة أحاديث :

قول ابن عباس : كنا نتمضمض من اللبن ولا نتوضأ منه .

وقول أنس : كان يقال في أيام العشر : كل يوم ألف يوم ، ويوم عرفة عشرة آلاف يوم ، قال : يعني في الفضل .

وقول عبد الله بن مسعود : من أتى ساحرا أو عرافا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .

قال : فهذا وأشباهه إذا قاله الصحابي فهو حديث مسند ، وكل ذلك مخرج في المسانيد .

ومن الأصوليين الإمام فخر الدين الرازي ، فقال في كتابه " المحصول " : إذا قال الصحابي قولا ليس للاجتهاد فيه مجال فهو محمول على السماع .

وقال القاضي أبو بكر بن العربي عقب ذكره لقول عمر : ومثل هذا إذا قاله عمر لا يكون إلا توقيفا ؛ لأنه لا يدرك بنظر ، انتهى .

هذا كله إذا صدر ذلك من الصحابي فيكون مرفوعا متصلا ، فإن صدر ذلك من التابعي فهو مرفوع مرسل ، كما ذكر ابن الصلاح ذلك في نظير المسألة ، وصرح البيهقي في هذه المسألة بخصوصها ، فإنه أخرج في شعب الإيمان بسنده عن أبي قلابة قال : في الجنة قصر لصوام رجب ، ثم قال : هذا القول عن أبي قلابة ، وهو من التابعين ، فمثله لا يقول ذلك إلا عن بلاغ ممن فوقه عمن يأتيه الوحي .

وأخرج البيهقي أيضا في " شعب الإيمان " بسنده عن أبي قلابة قال : من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال ، ومن قرأ الكهف في يوم الجمعة حفظ من الجمعة إلى الجمعة ، وإن أدرك الدجال لم يضره ، وجاء يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر ، ومن قرأ يس غفر له ، ومن قرأها وهو جائع شبع ، ومن قرأها وهو ضال هدي ، ومن قرأها وله ضالة وجدها ، ومن قرأها عند طعام خاف قلته كفاه ، ومن قرأها عند ميت هون عليه ، ومن قرأها عند والدة عسر عليها ولدها يسر عليها ، ومن قرأها فكأنما قرأ القرآن إحدى عشرة مرة ، ولكل شيء قلب ، وقلب القرآن يس .

ثم قال عقبه : هكذا نقل إلينا عن أبي قلابة ، وهو من كبار التابعين ، ولا نقول ذلك إن صح عنه إلا بلاغا .

وروى الإمام مالك في " الموطأ " عن يحيى بن سعيد أنه كان يقول : إن المصلي ليصلي الصلاة وما فاته وقتها ، ولما فاته من وقتها أعظم أو أفضل من أهله وماله .

قال ابن عبد البر : هذا له حكم المرفوع ؛ إذ يستحيل أن يكون مثله رأيا ، ويحيى بن سعيد من صغار التابعين ، وروى مالك في الموطأ أيضا عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول : [ ص: 220 ] من صلى بأرض فلاة صلى عن يمينه ملك وعن شماله ملك ، فإن أذن وأقام صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال .

قال بعضهم : هذا لا يقال بالرأي فهو مرفوع .

وهذا استدل به السبكي في " الحلبيات " على حصول فضيلة الجماعة بذلك ، وروى عبد الرزاق عن عكرمة قال : صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السماء ، فإذا وافق آمين في الأرض آمين في السماء غفر للعبد - أورده الحافظ ابن حجر في " شرح البخاري " في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم : " فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة " وقال : مثله لا يقال بالرأي ، فالمصير إليه أولى ، وعكرمة تابعي ، وهذا الأثر الذي نحن فيه من ذلك ، فإنه من أحوال البرزخ التي لا مدخل للرأي والاجتهاد فيها ، ولا طريق إلى معرفتها إلا بالتوقيف والبلاغ عمن يأتيه الوحي ، وقد قال ذلك عبيد بن عمير وطاوس ، وهما من كبار التابعين ، فيكون حكمه حكم الحديث المرفوع المرسل ، وإن ثبتت صحبة عبيد بن عمير فحكمه حكم المرفوع المتصل .

قال ابن عبد البر في " التمهيد " في شرح حديث فتنة القبر وسؤاله : أحكام الآخرة لا مدخل فيها للقياس ، والاجتهاد ، ولا للنظر والاحتجاج ، والله يفعل ما يشاء لا شريك له .

وقال القرطبي في " التذكرة " : هذا الباب ليس فيه مدخل للقياس ، ولا مجال للنظر فيه ، وإنما فيه التسليم والانقياد لقول الصادق المرسل إلى العباد ، انتهى .

ويؤيد ما ذكرناه أن هذه الأمور إذا صدرت من التابعين تحمل على الرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - ما أخرجه ابن أبي الدنيا بسنده ، عن أبي جعفر محمد بن علي قال : كان علي بن حسين يذكر أن العبد إذا احتمل إلى قبره نادى حملته إذا بشر بالنار فيقول : يا إخوتاه ، ما علمتم ما عاينت بعدكم ، إن أخاكم بشر بالنار ، فيا حسرتاه على ما فرطت في جنب الله ، أنشد بالله كل ولد أو جار أو صديق أو أخ إلا احتبسني عن قبري ، فإنه ليس بين صاحبكم وبين النار إلا أن تواروه في التراب ، والملائكة ينادون : امض عدو الله ، فإذا دنا من حفرته يقول : ما لي من شفيع مطاع ولا صديق حميم ، ثم إذا أدخل القبر ضرب ضربة تذعر لها كل دابة غير الجن والإنس .

وأما ولي الله إذا احتمل إلى قبره وبشر بالجنة نادى حملته : يا إخوتاه ، أما علمتم أني بشرت بعدكم بالرضا من الله ، والجنة والنجاة من سخط الله والنار ، فعجلوا بي إلى حفرتي ف ( ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) ، والملائكة ينادون : امض ولي الله إلى رب كريم يثيب بالشيء اليسير العظيم [ ص: 221 ] الجزيل ، اللهم اجعلها غدوة أو روحة إلى الجنة ، فإذا أدخل القبر تلقي بحزمة من ريحان الجنة ، يجد ريحها كل ذي ريح غير الإنس والجن .


قال أبو جعفر : كان علي بن حسين إذا ذكر أشباه هذا الحديث بكى ثم يقول : إني لأخاف الله أن أكتمه ، ولئن أظهرته ليدخلن علي أذى من الفسقة ، وذلك أن علي بن حسين ذكر حديث الذي ينادي حملته ، فقال ضمرة بن معبد - رجل من بني زهرة - والله يا علي بن حسين لو أن الميت يفعل كما زعمت بمناشدتك حملته إذا لوثب عن أيدي الرجل من سريره ، فضحك أناس من الفسقة ، وغضب علي بن حسين وقال : اللهم إن ضمرة كذب بما جاء به محمد رسولك ، فخذه أخذ أسف ، فما لبث ضمرة إلا أربعين ليلة حتى مات فجأة .

قال أبو جعفر : فأشهد على مسلم بن شعيب مولاه - وكان ما علمناه خيارا - أنه أتى علي بن حسين ليلا فقال : أشهد أني سمعت ضمرة أعرفه كما كنت أعرف صوته حيا وهو ينادي في قبره : ويل طويل لضمرة إلا أن يتبرأ منك كل خليل ، وحللت في نار الجحيم فيها مبيتك والمقيل ، فقال علي بن حسين : نسأل الله العافية ، هذا جزاء من ضحك وأضحك الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فانظر كيف ذكر علي بن حسين الحديث أولا من غير تصريح بعزوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، اتكالا على علم ذلك ؛ لأنه ليس مما يقال من قبل الرأي ، وإنما معتمده التوقيف والسماع ، ثم لما وقعت هذه القصة صرح بأنه حديث جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبالجملة فالحكم على مثل هذا بالرفع من الأمور التي أجمع عليها أهل الحديث .

التالي السابق


الخدمات العلمية