صفحة جزء
الوجه السادس : أطبق العلماء على أن المراد بقوله يفتنون وبفتنة القبر : سؤال الملكين منكر ونكير ، والأحاديث صريحة فيه ؛ ولهذا سمي ملكا السؤال الفتانين .

وروى البخاري حديث " أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور ، فيقال : ما علمك بهذا الرجل ؟ فأما المؤمن فيقول : هو محمد رسول الله . . . " الحديث .

وروى أحمد والبيهقي حديث " أما فتنة القبر فبي تفتنون وعني تسألون ، فإذا كان الرجل الصالح أجلس في قبره ، ثم يقال له : فيم كنت ؟ . . . " الحديث . فانظر كيف فسر قوله : " تفتنون في القبور " بسؤال الملكين .

وروى أحمد وأبو داود من حديث أنس مرفوعا : إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ، وإن المؤمن إذا وضع في [ ص: 225 ] قبره أتاه ملك فسأله . . . " الحديث .

وروى أحمد ، والطبراني ، والبيهقي ، من طريق أبي الزبير أنه سأل جابر بن عبد الله عن فتاني القبر فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن هذه الأمة تبتلى في قبورها ، فإذا أدخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه ، جاءه ملك شديد الانتهار ، فيقول له : ما كنت تقول في هذا الرجل . . . " الحديث .

وروى ابن أبي داود في البعث ، والبيهقي ، عن عمر بن الخطاب قال : قلت : يا رسول الله وما منكر ونكير ؟ قال : فتانا القبر . . . الحديث .

وروى أبو نعيم والبيهقي من مرسل عطاء بن يسار مثله .

وروى ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر : كيف أنت إذا رأيت منكرا ونكيرا ؟ قال : وما منكر ونكير ؟ قال : فتانا القبر - الحديث .

وروى البيهقي عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بي يفتن أهل القبور ، وفيه نزلت هذه الآية ( يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ) .

وروى أحمد وأبو داود حديث : كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله ، فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة ، ويؤمن من فتاني القبر .

وروى النسائي حديث : أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ قال : كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة .

وروى جويبر من حديث ابن عباس قال : شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة رجل من الأنصار . . . فذكر الحديث ، وفيه سؤال الملكين وقال : وهي أشد فتنة تعرض على المؤمن .

فهذه الأحاديث مرفوعة صريحة في أن المراد بفتنة القبر سؤال منكر ونكير . وكذا ما رواه أبو نعيم من مرسل ضمرة : فتانو القبر ثلاثة ؛ أنكر وناكور ورومان .

وما رواه ابن الجوزي عنه أيضا مرفوعا : فتانو القبر أربعة ؛ منكر ونكير وناكور وسيدهم رومان .

وأما كلام العلماء فقال ابن الأثير في " النهاية " في حديث الكسوف : إنكم تفتنون في القبور - يريد مسألة منكر ونكير - من الفتنة الامتحان والاختبار ، وقد كثرت استعاذته من فتنة القبر [ وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات وغير ذلك ] ، ومنه الحديث : فبي تفتنون وعني تسألون - أي تمتحنون بي في قبوركم - ويتعرف إيمانكم بنبوتي .

وقال النووي في " شرح مسلم " عند قوله صلى الله عليه وسلم : رأيتكم تفتنون في القبور ، معنى تفتنون : تمتحنون ، فيقال : ما علمك بهذا الرجل ؟ فيقول المؤمن : هو رسول الله ، ويقول المنافق : سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ، هكذا جاء مفسرا في الصحيح .

وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر في " التمهيد " [ ص: 226 ] في شرح هذا الحديث : للفتنة وجوه كثيرة ، ومعناها هنا الابتلاء والامتحان والاختبار ، وكذا قال الباجي وابن رشيق والقرطبي في شروحهم على " الموطأ " .

وقال الإمام أبو محمد بن أبي زيد في " الرسالة " : وإن المؤمنين يفتنون في قبورهم ويسألون ، ويثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت .

قال يوسف بن عمر في " شرح الرسالة " : قوله : تفتنون - أي تختبرون - وهو قوله : ويسألون ، وأتى به تفسيرا لقوله : تفتنون .

وقال الجزولي في " شرح الرسالة " : الفتنة تأتي والمراد بها الكفر ، وهو قوله تعالى : ( والفتنة أشد من القتل ) وتأتي والمراد بها الاحتراق وهو قوله : ( يوم هم على النار يفتنون ) وتأتي والمراد بها الميل وهو قوله : ( وإن كادوا ليفتنونك ) وتطلق ويراد بها الضلال ، قال تعالى : ( إن هي إلا فتنتك ) وتطلق ويراد بها المرض ، قال تعالى : ( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ) وتطلق ويراد بها الاختبار ، وهو قوله تعالى : ( وفتناك فتونا ) أي اختبرناك ، قال : وهو المراد هنا ، فيكون قوله : تفتنون معناه : تختبرون .

وقال الإمام علم الدين السخاوي في أرجوزته في أصول الدين :


وكل ما أتاك عن محمد صلى عليه الله خذه ترشد     من فتنة العباد في القبور
والعرض يوم البعث والنشور

قال شارحه : فتنة القبور سؤال منكر ونكير .

التالي السابق


الخدمات العلمية