صفحة جزء
مسألة : رؤية الله تعالى يوم القيامة في الموقف حاصلة لكل أحد ، الرجال والنساء بلا نزاع ، وذهب قوم من أهل السنة إلى أنها تحصل فيه للمنافقين أيضا . وذهب آخرون منهم إلى أنها تحصل للكافرين أيضا ، ثم يحجبون بعد ذلك ليكون عليهم حسرة ، وله شاهد رويناه عن الحسن البصري .

وأما الرؤية في الجنة فأجمع أهل السنة أنها حاصلة للأنبياء والرسل والصديقين من كل أمة ، ورجال المؤمنين من البشر من هذه الأمة ، واختلف بعد ذلك في صور ؛ إحداها النساء من هذه الأمة ، وفيهن ثلاثة مذاهب للعلماء حكاها جماعة منهم الحافظ عماد الدين بن كثير في أواخر تاريخه ، أحدها : أنهن لا يرين لأنهن مقصورات في الخيام ؛ ولأنه لم يرد في أحاديث الرؤية تصريح برؤيتهن . والثاني : أنهن يرين أخذا من عمومات النصوص الواردة في الرؤية . والثالث : أنهن يرين في مثل أيام الأعياد ، فإنه تعالى يتجلى في مثل أيام الأعياد لأهل الجنة تجليا عاما ، فيرينه في مثل هذه الحال دون غيرها ، قال ابن كثير : وهذا القول يحتاج إلى دليل خاص عليه .

وقال الحافظ ابن رجب في اللطائف : كل يوم كان للمسلمين عيدا في الدنيا ، فإنه عيد لهم في الجنة يجتمعون فيه على زيارة ربهم ، ويتجلى لهم فيه ، ويوم الجمعة يدعى في الجنة يوم المزيد ، ويوم الفطر والأضحى يجتمع أهل الجنة فيهما للزيارة ، وروي أنه يشارك النساء الرجال فيهما كما كن يشهدن العيدين مع الرجال دون الجمعة ، هذا لعموم أهل الجنة ، فأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يزورون ربهم كل يوم بكرة وعشيا ، انتهى .

2 [ ص: 241 ] قلت : الحديث الذي أشار إليه ابن رجب ولم يقف عليه ابن كثير أخرجه الدارقطني في كتاب الرؤية قال : حدثنا أحمد بن سلمان بن الحسن ، ثنا محمد بن عثمان بن محمد ، ثنا مروان بن جعفر ، ثنا نافع أبو الحسن مولى بني هاشم ، ثنا عطاء بن أبي ميمونة ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم القيامة رأى المؤمنون ربهم عز وجل ، فأحدثهم عهدا بالنظر إليه في كل جمعة ، ويراه المؤمنات يوم الفطر ويوم النحر .

الثانية الملائكة ، فذهب الشيخ عز الدين بن عبد السلام إلى أنهم لا يرون ربهم ؛ لأنهم لم يثبت لهم ذلك كما ثبت للمؤمنين من البشر ، وقد قال تعالى : ( لا تدركه الأبصار ) خرج منه مؤمنو البشر بالأدلة الثابتة ، فبقي على عمومه في الملائكة ؛ ولأن للبشر طاعات لم يثبت مثلها للملائكة ، كالجهاد ، والصبر على البلايا ، والمحن ، والرزايا ، وتحمل المشاق في العبادات لأجل الله ، وقد ثبت أنهم يرون ربهم ويسلم عليهم ، ويبشرهم بإحلال رضوانه عليهم أبدا ، ولم يثبت مثل هذا للملائكة ، انتهى .

وقد نقله عنه جمع من المتأخرين ولم يتعقبوه بنكير ، منهم الإمام بدر الدين الشبلي صاحب " آكام المرجان في أحكام الجان " ، والعلامة عز الدين بن جماعة في " شرح جمع الجوامع " ، ولكن الأقوى أنهم يرونه ، فقد نص على ذلك إمام أهل السنة والجماعة الشيخ أبو الحسن الأشعري ، قال في كتابه " الإبانة في أصول الديانة " ومنه نقلت ما نصه : أفضل لذات الجنة رؤية الله تعالى ، ثم رؤية نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلذلك لم يحرم الله أنبياءه المرسلين وملائكته المقربين وجماعة المؤمنين والصديقين النظر إلى وجهه عز وجل ، انتهى .

وقد تابعه على ذلك الإمام الحافظ البيهقي ، قال في " كتاب الرؤية " - باب ما جاء في رؤية الملائكة ربهم - : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأحمد بن الحسن قالا : ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، ثنا محمد بن إسحاق ، حدثني أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن أبيه سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يحدث مروان بن الحكم قال : خلق الله الملائكة لعبادته أصنافا ، وإن منهم لملائكة قياما صافين من يوم خلقهم إلى يوم القيامة ، وملائكة ركوعا خشوعا من يوم خلقهم إلى يوم القيامة ، وملائكة سجودا منذ خلقهم إلى يوم القيامة ، [ ص: 242 ] فإذا كان يوم القيامة تجلى لهم تبارك وتعالى ونظروا إلى وجهه الكريم ، قالوا : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك .

وأخبرنا محمد بن عبد الله وأحمد بن الحسن قال : ثنا أبو العباس ، ثنا محمد بن إسحاق ، ثنا روح بن عبادة ، ثنا عباد بن منصور قال : سمعت عدي بن أرطاة يخطب على منبر المدائن ، فجعل يعظنا حتى بكى وأبكانا ، ثم قال : كونوا كرجل قال لابنه وهو يعظه : يا بني ، أوصيك أن لا تصلي صلاة إلا ظننت أنك لا تصلي بعدها غيرها حتى تموت ، ولقد سمعت فلانا - نسي عباد اسمه - ما بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم غيره قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن لله ملائكة ترعد فرائصهم من مخافته ، ما منهم ملك تقطر دمعة من عينه إلا وقعت ملكا يسبح ، قال : وملائكة سجودا منذ خلق الله السماوات والأرض لم يرفعوا رءوسهم ، ولا يرفعونها إلى يوم القيامة وركوعا لم يرفعوا رءوسهم إلى يوم القيامة ، وصفوفا لم ينصرفوا عن مصافهم ولا ينصرفون إلى يوم القيامة ، فإذا كان يوم القيامة تجلى لهم ربهم ، فينظرون إليه ، قالوا : سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك . أخرجه أبو الشيخ في " العظمة " ، ولفظه : فإذا رفعوا ونظروا إلى وجه الله تعالى قالوا : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك .

وممن قال برؤية الملائكة من المتأخرين العلامة شمس الدين بن القيم ، وقاضي القضاة جلال الدين البلقيني ، وهو الأرجح بلا شك . ومنهم من قال : إن جبريل عليه السلام يراه دون سائر الملائكة ؛ لأنه وقف على الحديث الذي ورد فيه رؤيته ، ولم يقف على الحديثين السابقين في رؤية الملائكة على العموم ، ومشى عليه أبو إسحاق إسماعيل الصفار البخاري من الحنفية ، فإني رأيت في أسئلته المشهورة ما نصه : سئل عن الملائكة هل يرون ربهم ؟ فأجاب : اعتماد والدي الشهيد أنهم لا يرون ربهم سوى جبريل ، فإنه يرى ربه مرة واحدة ولا يرى أبدا ، انتهى .

والصواب العموم ، والحديث المذكور أخرجه الحاكم في " المستدرك " ، وصححه من طريق إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن علي بن حسين ، عن جابر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : تمد الأرض يوم القيامة مدا لعظمة الرحمن ، ثم لا يكون لبشر من بني آدم إلا موضع قدميه ، ثم أدعى أول الناس ، فأخر ساجدا ، ثم يؤذن لي ، فأقوم فأقول : يا رب أخبرني هذا - لجبريل وهو عن يمين الرحمن ، والله ما رآه جبريل قبلها قط - أنك أرسلته إلي ، قال : وجبريل ساكت لا يتكلم حتى يقول الله : صدق ، ثم يؤذن لي في الشفاعة فأقول : يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض ، فبذلك المقام المحمود . قال الحاكم : صحيح على [ ص: 243 ] شرط الشيخين ، قال : لكن أرسله معمر ، عن ابن شهاب ، عن علي بن حسين بنحوه ، وأخرجه الحاكم من طريق ابن وهب ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن علي بن حسين ، عن رجل من أهل [ العلم ] - ولم يسمه - أن الأرض تمد يوم القيامة . . . الحديث .

وقال عبد الرازق في تفسيره : أنا معمر ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه ، قال : فأكون أول من يدعى ، وجبريل عن يمين العرش ، والله ما رآه قبلها ، فأقول : أي رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي ، فيقول الله عز وجل : صدق . ثم أشفع فأقول : يا رب عبدوك في أطراف الأرض ، وهو المقام المحمود - أخرجه ابن جرير .

وقال ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب ، ثنا عمي ، ثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن علي بن حسين قال : أخبرني رجل من أهل العلم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم لعظمة الرحمن ، ولا يكون لبشر من بني آدم فيها إلا موضع قدمه ، فأدعى أول الناس ، فأخر ساجدا ، ثم يؤذن لي فأقول : يا رب أخبرني هذا - لجبريل وجبريل عن يمين الرحمن والله ما رآه جبريل قط قبلها - إنك أرسلته إلي ، وجبريل ساكت لا يتكلم ، حتى يقول الرحمن تبارك وتعالى : صدقت ، قال : ثم يؤذن لي في الشفاعة ، فأقول : أي رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض ، فذلك المقام المحمود .

الثالثة الجن ، وقد نقل صاحب " آكام المرجان " مقالة الشيخ عز الدين في الملائكة ثم قال : والجن أولى بالمنع منهم .

وقال الجلال البلقيني : لم أقف على كلام أحد من العلماء تعرض لهذه المسألة ، ولم تثبت الرؤية إلا للبشر ، ثم نقل كلام الشيخ عز الدين في أن الملائكة لا يرون ، ثم قال : وإذا كان ذلك في الملائكة ففي الجن بطريق الأولى ، ثم قال : وقد يتوقف في الأولوية ؛ لأن الإيمان في عرف الشرع يشمل مؤمني الثقلين ، ثم قرر ثبوت الرؤية للملائكة ثم قال : وعلى مقتضى استدلال الأئمة والأشعري تثبت الرؤية لمؤمني الجن .

الرابعة مؤمنو الأمم السابقة ، وفيهم احتمالان لابن أبي جمرة وقال : إن الأظهر مساواتهم لهذه الأمة في الرؤية ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية