صفحة جزء
الأمر الثالث : أثر ورد في أم النبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، أخرج أبو نعيم في دلائل النبوة بسند ضعيف من طريق الزهري عن أم سماعة بنت أبي رهم عن أمها قالت : شهدت آمنة أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في علتها التي ماتت فيها ومحمد غلام يفع له خمس سنين عند رأسها فنظرت إلى وجهه ثم قالت :


بارك فيك الله من غلام يا ابن الذي من حومة الحمام [ ص: 269 ]     نجا بعون الملك المنعام
فودى غداة الضرب بالسهام     بمائة من إبل سوام
إن صح ما أبصرت في المنام     فأنت مبعوث إلى الأنام
من عند ذي الجلال والإكرام     تبعث في الحل وفي الإحرام
تبعث بالتحقيق والإسلام     دين أبيك البر إبراهام
فالله أنهاك عن الأصنام


أن لا تواليها مع الأقوام

ثم قالت : كل حي ميت وكل جديد بال ، وكل كبير يفنى ، وأنا ميتة وذكري باق ، وقد تركت خيرا ، وولدت طهرا . ثم ماتت ، فكنا نسمع نوح الجن عليها ، فحفظنا من ذلك :


نبكي الفتاة البرة الأمينه     ذات الجمال العفة الرزينه
زوجة عبد الله والقرينه     أم نبي الله ذي السكينه
وصاحب المنبر بالمدينه     صارت لدى حفرتها رهينه

فأنت ترى هذا الكلام منها صريحا في النهي عن موالاة الأصنام مع الأقوام ، والاعتراف بدين إبراهيم ، ويبعث ولدها إلى الأنام من عند ذي الجلال والإكرام بالإسلام .

وهذه الألفاظ منافية للشرك ، وقولها : تبعث بالتحقيق ، كذا هو في النسخة ، وعندي أنه تصحيف وإنما هو بالتخفيف ، ثم إني استقرأت أمهات الأنبياء - عليهم السلام - فوجدتهن مؤمنات ؛ فأم إسحاق ، وموسى ، وهرون ، وعيسى ، وحواء أم شيث مذكورات في القرآن ، بل قيل بنبوتهن ، ووردت الأحاديث بإيمان هاجر أم إسماعيل ، وأم يعقوب ، وأمهات أولاده ، وأم داود ، وسليمان ، وزكريا ، ويحيى ، وشمويل ، وشمعون ، وذي الكفل ، ونص بعض المفسرين على إيمان أم نوح ، وأم إبراهيم ، ورجحه أبو حيان في تفسيره ، وقد تقدم عن ابن عباس أنه لم يكن بين نوح وآدم والد كافر ، ولهذا قال : ( رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا ) وقال إبراهيم : ( ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ) ولم يعتذر عن استغفار إبراهيم في القرآن إلا لأبيه خاصة دون أمه ، فدل على أنها كانت مؤمنة ، وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه عن ابن عباس قال : كانت الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة : نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ومحمد - عليهم السلام - وبنو إسرائيل كلهم كانوا مؤمنين لم يكن فيهم [ ص: 270 ] كافر إلى أن بعث عيسى فكفر به من كفر - فأمهات الأنبياء الذين من بني إسرائيل كلهن مؤمنات - وأيضا فغالب أنبياء بني إسرائيل كانوا أولاد أنبياء أو أولاد أولادهم ، فإن النبوة كانت تكون في سبط منهم يتناسلون كما هو معروف في أخبارهم ، وأما العشرة المذكورون من غير بني إسرائيل فقد ثبت إيمان أم نوح ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، وبقي أم هود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، يحتاج إلى نقل أو دليل ، والظاهر - إن شاء الله تعالى - إيمانهن ، فكذلك أم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان السر في ذلك ما يرينه من النور كما ورد في الحديث .

أخرج أحمد والبزار والطبراني والحاكم والبيهقي عن العرباض بن سارية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إني عند الله لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأخبركم عن ذلك : دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى ، ورؤيا أمي التي رأت ) وكذلك أمهات النبيين يرين ، وأن أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأت حين وضعته نورا أضاءت له قصور الشام ، ولا شك أن الذي رأته أم النبي - صلى الله عليه وسلم - في حال حملها به وولادتها له من الآيات أكثر وأعظم مما رآه سائر أمهات الأنبياء كما سقنا الأخبار بذلك في كتاب المعجزات ، وقد ذكر بعضهم أنه لم ترضعه مرضعة إلا أسلمت ، قال : ومرضعاته أربع : أمه ، وحليمة السعدية ، وثويبة ، وأم أيمن ، انتهى .

فإن قلت : فما تصنع بالأحاديث الدالة على كفرها وأنها في النار ، وهي حديث أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ليت شعري ما فعل أبواي ؟ فنزلت : ( ولا تسأل عن أصحاب الجحيم ) وحديث أنه استغفر لأمه فضرب جبريل في صدره وقال : لا تستغفر لمن مات مشركا ، وحديث أنه نزل فيها : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) وحديث أنه قال لابني مليكة : ( أمكما في النار ، فشق عليهما فدعاهما ، فقال : إن أمي مع أمكما ) قلت : الجواب أن غالب ما يروى من ذلك ضعيف ، ولم يصح في أم النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى حديث ( أنه استأذن في الاستغفار لها فلم يؤذن له ) ولم يصح أيضا في أبيه إلا حديث مسلم خاصة ، وسيأتي الجواب عنهما ، وأما الأحاديث التي ذكرت ، فحديث : ( ليت شعري ما فعل أبواي ؟ ) فنزلت الآية ، لم يخرج في شيء من كتب [ الحديث ] المعتمدة ، وإنما ذكر في بعض التفاسير بسند منقطع لا يحتج به ولا يعول عليه ، ولو جئنا نحتج بالأحاديث الواهية لعارضناك بحديث واه أخرجه ابن الجوزي من حديث علي مرفوعا ( هبط جبريل علي فقال : إن الله يقرئك السلام [ ص: 271 ] ويقول : إني حرمت النار على صلب أنزلك ، وبطن حملك ، وحجر كفلك ) ويكون من باب معارضة الواهي بالواهي ، إلا أنا لا نرى ذلك ولا نحتج به .

ثم إن هذا السبب مردود بوجوه أخرى من جهة الأصول والبلاغة وأسرار البيان ، وذلك أن الآيات من قبل هذه الآية ومن بعدها كلها في اليهود من قوله تعالى : ( يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون ) إلى قوله : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات ) ولهذا ختمت القصة بمثل ما صدرت به ، وهو قوله تعالى ( يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ) الآيتين ، فتبين أن المراد بأصحاب الجحيم كفار أهل الكتاب ، وقد ورد ذلك مصرحا به في الأثر : أخرج عبد بن حميد ، والفريابي ، وابن جرير ، وابن المنذر في تفاسيرهم عن مجاهد قال : من أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين ، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين ، ومن أربعين آية إلى عشرين ومائة في بني إسرائيل ، إسناده صحيح ، ومما يؤكد ذلك أن السورة مدنية وأكثر ما خوطب فيها اليهود ، ويرشح ذلك من حيث المناسبة أن الجحيم اسم لما عظم من النار كما هو مقتضى اللغة والآثار ، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله تعالى : ( أصحاب الجحيم ) قال : الجحيم ما عظم من النار ، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله تعالى : ( لها سبعة أبواب ) قال : أولها جهنم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية ، قال : والجحيم فيها أبو جهل ، إسناده صحيح أيضا ، فاللائق بهذه المنزلة من عظم كفره واشتد وزره وعاند عند الدعوة وبدل وحرف وجحد بعد علم ، لا من هو بمظنة التخفيف ، وإذا كان قد صح في أبي طالب أنه أهون أهل النار عذابا لقرابته منه - صلى الله عليه وسلم - وبره به مع إداركه الدعوة وامتناعه من الإجابة وطول عمره ، فما ظنك بأبويه اللذين هما أشد منه قربا وآكد حبا وأبسط عذرا وأقصر عمرا ، فمعاذ الله أن يظن بهما أنهما في طبقة الجحيم ، وأن يشدد عليهما العذاب العظيم ، هذا لا يفهمه من له أدنى ذوق سليم ، وأما حديث أن جبريل ضرب في صدره وقال : لا تستغفر لمن مات مشركا ، فإن البزار أخرجه بسند فيه من لا يعرف ، وأما نزول الآية في ذلك فضعيف أيضا ، والثابت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - له : ( لأستغفرن لك ما لم أنه [ ص: 272 ] عنك ) وأما حديث : ( أمي مع أمكما ) فأخرجه الحاكم في مستدركه وقال : صحيح ، وشأن المستدرك في تساهله في التصحيح معروف ، وقد تقرر في علوم الحديث أنه لا يقبل تفرده بالتصحيح ، ثم إن الذهبي في مختصر المستدرك لما أورد هذا الحديث ونقل قول الحاكم : صحيح ، قال عقبه : قلت : لا والله ، فعثمان بن عمير ضعفه الدارقطني ، فبين الذهبي ضعف الحديث وحلف عليه يمينا شرعيا ، وإذا لم يكن في المسألة إلا أحاديث ضعيفة كان للنظر في غيرها مجال .

الأمر الرابع : مما ينتصر به لهذا المسلك أنه قد ثبت عن جماعة كانوا في زمن الجاهلية أنهم تحنفوا وتدينوا بدين إبراهيم - عليه السلام - وتركوا الشرك ، فما المانع أن يكون أبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - سلكوا سبيلهم في ذلك ؟ قال الحافظ أبو الفرج بن الجوزي في التلقيح : تسمية من رفض عبادة الأصنام في الجاهلية : أبو بكر الصديق ، زيد بن عمرو بن نفيل ، عبيد الله بن جحش ، عثمان بن الحويرث ، ورقة بن نوفل ، رباب بن البراء ، أسعد أبو كريب الحميري ، قس بن ساعدة الإيادي ، أبو قيس بن صرمة ، انتهى .

وقد وردت الأحاديث بتحنف زيد بن عمرو ، وورقة ، وقس ، وقد روى ابن إسحاق وأصله في الصحيح تعليقا عن أسماء بنت أبي بكر قالت : ( لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول : يا معشر قريش ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري ، ثم يقول : اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ، ولكني لا أعلم ) قلت : وهذا يؤيد ما تقدم في المسلك الأول أنه لم يبق إذ ذاك من يبلغ الدعوة ويعرف حقيقتها على وجهها .

وأخرج أبو نعيم في دلائل النبوة عن عمرو بن عبسة السلمي قال : رغبت عن آلهة قومي في الجاهلية ورأيت أنها الباطل ، يعبدون الحجارة ، وأخرج البيهقي وأبو نعيم كلاهما في " الدلائل " من طريق الشعبي عن شيخ من جهينة : أن عمير بن حبيب الجهني ترك الشرك في الجاهلية ، وصلى لله ، وعاش حتى أدرك الإسلام .

وقال إمام الأشاعرة الشيخ أبو الحسن الأشعري : وأبو بكر ما زال بعين الرضا منه ، فاختلف الناس في مراده بهذا الكلام فقال بعضهم : إن الأشعري يقول أن أبا بكر الصديق كان مؤمنا قبل البعثة ، وقال آخرون : بل أراد أنه لم يزل بحالة غير مغضوب فيها عليه ؛ لعلم الله تعالى بأنه سيؤمن ويصير من خلاصة الأبرار ، قال الشيخ تقي الدين السبكي : لو كان هذا مراده لاستوى الصديق وسائر الصحابة في ذلك ، وهذه العبارة التي قالها الأشعري في حق الصديق لم تحفظ عنه في حق غيره ، فالصواب أن يقال : إن الصديق لم يثبت عنه حالة كفر بالله ، فلعل حاله قبل البعث كحال زيد [ ص: 273 ] بن عمرو بن نفيل وأقرانه ، فلهذا خصص الصديق بالذكر عن غيره من الصحابة ، انتهى كلام السبكي .

قلت : وكذلك نقول في حق أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهما لم يثبت عنهما حالة كفر بالله ، فلعل حالهما كحال زيد بن عمرو بن نفيل ، وأبي بكر الصديق وأضرابهما ، مع أن الصديق وزيد بن عمرو إنما حصل لهما التحنف في الجاهلية ببركة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنهما كانا صديقين له قبل البعثة ، وكانا يوادانه كثيرا ، فأبواه أولى بعود بركته عليهما وحفظهما مما كان عليه أهل الجاهلية .

فإن قلت : بقيت عقدة واحدة وهي ما رواه مسلم عن أنس : ( أن رجلا قال : يا رسول الله أين أبي ؟ قال : في النار ، فلما قفى دعاه ، فقال : إن أبي وأباك في النار ) ، وحديث مسلم وأبي داود عن أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - استأذن في الاستغفار لأمه فلم يؤذن له ، فاحلل هذه العقدة .

قلت : على الرأس والعين ، الجواب : أن هذه اللفظة وهي قوله : إن أبي وأباك في النار ، لم يتفق على ذكرها الرواة ، وإنما ذكرها حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس ، وهي الطريق التي رواه مسلم منها ، وقد خالفه معمر عن ثابت فلم يذكر : إن أبي وأباك في النار ، ولكن قال له : إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار ، وهذا اللفظ لا دلالة فيه على والده - صلى الله عليه وسلم - بأمر البتة ، وهو أثبت من حيث الرواية ، فإن معمرا أثبت من حماد ، فإن حمادا تكلم في حفظه ووقع في أحاديثه مناكير ذكروا أن ربيبه دسها في كتبه ، وكان حماد لا يحفظ فحدث بها فوهم فيها ، ومن ثم لم يخرج له البخاري شيئا ، ولا خرج له مسلم في الأصول إلا من روايته عن ثابت ، قال الحاكم في المدخل : ما خرج مسلم لحماد في الأصول إلا من حديثه عن ثابت ، وقد خرج له في الشواهد عن طائفة ، وأما معمر فلم يتكلم في حفظه ولا استنكر شيء من حديثه ، واتفق على التخريج له الشيخان فكان لفظه أثبت ، ثم وجدنا الحديث ورد من حديث سعد بن أبي وقاص بمثل لفظ رواية معمر عن ثابت عن أنس ، فأخرج البزار والطبراني والبيهقي من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه : ( أن أعرابيا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أين أبي ؟ قال : في النار ، قال : فأين أبوك ؟ قال : حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار ) وهذا إسناد على شرط الشيخين ، فتعين الاعتماد على هذا اللفظ وتقديمه على غيره ، وقد زاد الطبراني والبيهقي في آخره قال : فأسلم الأعرابي بعد فقال : لقد كلفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعبا ، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار ، وقد أخرج ابن ماجه من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سالم عن أبيه قال : ( جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إن أبي كان [ ص: 274 ] يصل الرحم وكان ، فأين هو ؟ قال : في النار ، قال : فكأنه وجد من ذلك ، فقال : يا رسول الله فأين أبوك ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : حيث مررت بقبر مشرك فبشره بالنار ، قال : فأسلم الأعرابي بعد ، قال : لقد كلفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعبا ، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار ) .

فهذه الزيادة أوضحت بلا شك أن هذا اللفظ العام هو الذي صدر منه - صلى الله عليه وسلم - ورآه الأعرابي بعد إسلامه أمرا مقتضيا للامتثال فلم يسعه إلا امتثاله ، ولو كان الجواب باللفظ الأول لم يكن فيه أمر بشيء البتة ، فعلم أن هذا اللفظ الأول من تصرف الراوي ، رواه بالمعنى على حسب فهمه ، وقد وقع في الصحيحين روايات كثيرة من هذا النمط فيها لفظ تصرف فيه الراوي ، وغيره أثبت منه ، كحديث مسلم عن أنس في نفي قراءة البسملة ، وقد أعله الإمام الشافعي - رضي الله عنه - بذلك ، وقال : إن الثابت من طريق آخر نفي سماعها ، ففهم منه الراوي نفي قراءتها ، فرواه بالمعنى على ما فهمه فأخطأ ، ونحن أجبنا عن حديث مسلم في هذا المقام بنظير ما أجاب به إمامنا [ الإمام ] الشافعي - رضي الله عنه - عن حديث مسلم في نفي قراءة البسملة ، ثم لو فرض اتفاق الرواة على اللفظ الأول كان معارضا بما تقدم من الأدلة ، والحديث الصحيح إذا عارضه أدلة أخرى هي أرجح منه وجب تأويله وتقديم تلك الأدلة عليه كما هو مقرر في الأصول ، وبهذا الجواب الأخير يجاب عن حديث عدم الإذن في الاستغفار لأمه ، على أنه يمكن فيه دعوى عدم الملازمة بدليل أنه كان في صدر الإسلام ممنوعا من الصلاة على من عليه دين وهو مسلم ، فلعله كانت عليها تبعات غير الكفر فمنع من الاستغفار لها بسببها ، والجواب الأول أقعد وهذا تأويل في الجملة ، ثم رأيت طريقا أخرى للحديث مثل لفظ رواية معمر وأزيد وضوحا ، وذلك أنه صرح فيه بأن السائل أراد أن يسأل عن أبيه - صلى الله عليه وسلم - فعدل عن ذلك تجملا وتأدبا . فأخرج الحاكم في المستدرك وصححه عن لقيط بن عامر ( أنه خرج وافدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه نهيك بن عاصم بن مالك بن المنتفق فقال : قدمنا المدينة لانسلاخ رجب فصلينا معه صلاة الغداة ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس خطيبا ، فذكر الحديث إلى أن قال : فقلت : يا رسول الله هل أحد ممن مضى منا في جاهلية من خير ؟ فقال رجل من عرض قريش : إن أباك المنتفق في النار ، فكأنه وقع حر بين جلد وجهي ولحمي مما قال لأبي على رؤوس الناس ، فهممت أن أقول : وأبوك يا رسول الله ؟ ثم نظرت فإذا الأخرى أجمل فقلت : وأهلك يا رسول الله ؟ فقال : ما أتيت عليه من قبر قرشي أو عامري مشرك فقل : أرسلني إليك محمد فأبشر بما يسوءك ) هذه رواية لا إشكال فيها ، وهي أوضح الروايات وأبينها .

[ ص: 275 ] تقرير آخر : ما المانع أن يكون قول السائل : فأين أبوك ؟ وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس : إن أبي - إن ثبت - المراد به عمه أبو طالب لا أبوه عبد الله ، كما قال بذلك الإمام فخر الدين في أبي إبراهيم أنه عمه ، وقد تقدم نقله عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج والسدي ويرشحه هنا أمران : الأول : أن إطلاق ذلك على أبي طالب كان شائعا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولذا كانوا يقولون له : قل لابنك يرجع عن شتم آلهتنا ، وقال لهم أبو طالب مرة لما قالوا له : أعطنا ابنك نقتله وخذ هذا الولد مكانه - : أعطيكم ابني تقتلونه وآخذ ابنكم أكفله لكم ، ولما سافر أبو طالب إلى الشام ومعه النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل له بحيرا فقال له : ما هذا منك ؟ قال : هو ابني ، فقال : ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا ، فكانت تسمية أبي طالب أبا للنبي - صلى الله عليه وسلم - شائعة عندهم لكونه عمه وكونه رباه وكفله من صغره ، وكان يحوطه ويحفظه وينصره ، فكان مظنة السؤال عنه .

والأمر الثاني : أنه وقع في حديث يشبه هذا ذكر أبي طالب في ذيل القصة ، أخرج الطبراني عن أم سلمة ( أن الحارث بن هشام أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حجة الوداع فقال : يا رسول الله إنك تحث على صلة الرحم والإحسان إلى الجار وإيواء اليتيم وإطعام الضيف وإطعام المسكين ، وكل هذا كان يفعله هشام بن المغيرة ، فما ظنك به يا رسول الله ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كل قبر لا يشهد صاحبه أن لا إله إلا الله فهو جذوة من النار ، وقد وجدت عمي أبا طالب في طمطام من النار فأخرجه الله لمكانه مني وإحسانه إلي فجعله في ضحضاح من النار ) .

تنبيه : قد استراح جماعة من هذه الأجوبة كلها وأجابوا عن الأحاديث الواردة [ فيهما بأنها منسوخة ، كما أجابوا عن الأحاديث الواردة في أطفال المشركين أنهم في النار ، وقالوا : الناسخ لأحاديث أطفال المشركين قوله تعالى : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ولأحاديث الأبوين قوله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ومن اللطائف كون الجملتين في الفريقين مقترنتين في آية واحدة متعاطفتين متناسقتين في النظم ، وهذا الجواب مختصر مفيد يغني عن كل جواب إلا أنه إنما يتأتى على المسلك الأول دون الثاني كما هو واضح ، فلهذا احتجنا إلى تحرير الأجوبة عنها على المسلك الثاني .

تتمة : قد ثبت في الحديث الصحيح أن أهون أهل النار عذابا أبو طالب ، وأنه في [ ص: 276 ] ضحضاح من النار في رجليه نعلان يغلي منهما دماغه ، وهذا مما يدل على أن أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسا في النار لأنهما لو كانا فيها لكانا أهون عذابا من أبي طالب ؛ لأنهما أقرب منه مكانا وأبسط عذرا ، فإنهما لم يدركا البعثة ولا عرض عليهما الإسلام فامتنعا بخلاف أبي طالب ، وقد أخبر الصادق المصدوق أنه أهون أهل النار عذابا فليس أبواه من أهلها ، وهذا يسمى عند أهل الأصول دلالة الإشارة .

التالي السابق


الخدمات العلمية