صفحة جزء
مسألة : فيمن سمع إنسانا ينشد قول العلامة ناصح الدين الأرجاني :


هذا الزمان على ما فيه من كدر حكى انقلاب لياليه بأهليه [ ص: 327 ]     غدير ماء تراءى في أسافله
خيال قوم تمشوا في نواحيه     فالرأس ينظر منكوسا أسافله
والرجل ينظر مرفوعا أعاليه



فأعرب " الرأس " مبتدأ ، و " ينظر " المبني لما لم يسم فاعله خبر ، والضمير المستتر فيه العائد إلى الرأس معمول ل " ينظر " ، و " منكوسا " حال منه ، وأسافل منصوب على الظرف ، والضمير المتصل به عائد إلى الغدير ، وتقدير الكلام : ينظر الرأس حال كونه منكوسا أسافل الغدير . والظرف متعلق ب " ينظر " ، وكذا النصف الثاني ، فيكون تقديره : ينظر الرجل حال كونه مرفوعا في أعالي الغدير ، فيكون الشاعر قد شبه رأس الإنسان برأس الإنسان ، والرجل بالأسافل ، والغدير في حال تمثل الأشكال فيه منقلبة بالزمان في انقلابه بأهله ، ومراتب العلو والسفل الواقع في الحسن بمشاهدة الأشكال المنتكسة في الغدير الموهومة أنها سطوح ، وقيعان الغدير مراتب الدنيا ومناصبها ، ويكون سكن ياء " أعاليه " للضرورة ، فهل هذا الإعراب صحيح مستقيم أو فاسد باطل ؟ أو له وجه ما في الجملة ، أو ما قاله من رد على هذا المعرب هو الصواب ، وهو أن " أسافل " مرفوع على أنه معمول لينظر ، أعني : أنه النائب عن الفاعل ، والمراد به - أعني " الأسافل " - الأرجل ، والضمير المتصل به عائد إلى الرأس ، والمراد بالرأس هنا الإنسان من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل ، وأن هذا مثل قولهم فلان رأس بني فلان ، وعندي خمسون رأسا من الإبل ، و " منكوسا " حال من الرأس ، فيكون تقدير الكلام : ينظر أسافل الإنسان حال كون الإنسان منكوسا ، فهل هذا الإعراب صحيح ؟ وما اعتبره من مجاز الرأس معتبر علاقته بينة ، وقرينته الصارفة عن اللفظ المستعمل عما وضع له في التخاطب صالحة أو لا ؛ لأنه لا اعتبار لكون الإنسان شريفا أو وضيعا بالنسبة إلى تمثل خياله في الغدير ، وإنما الاعتبار في إنكاس الرأس المشبهة بصاحب الفضل والكمال والشرف المعتبر عند أهل النظر والعقل وارتفاع الرجل المشبه بأرذال الناس وسقاطهم ، على تقدير صحة كل ذلك هل يتمشى ذلك له في النصف الثاني من البيت ؟ وهل قول القائل : إن إطلاق الرأس على الإنسان في مثل هذا الموضع - أعني حيث لا علاقة ولا قرينة - لم يستعمله أحد من العرب ، ولا من غيرهم من المولدين وأرباب البلاغة والفصاحة مثل أن يقال : رأيت رأسا - ويريد شخصا من الإنسان - من غير حصول قرينة تدل على ذلك ، وإن مثل ذلك غير فصيح ، بل غير جائز ، وإن قيل بجوازه فهو مستهجن غير مألوف صحيح ؟ وهل يكون قول القائل في جواز ذلك : صرح الأصوليون بعدم اشتراط الوضع في المجاز ، سفسطة وهذيانا ؟ .

الجواب : الإعراب الأول هو الصواب ، الثاني الذي قاله الراد خطأ بالكلية ، لا وجه [ ص: 328 ] له ، ولو أعربه على وجه آخر فقال : إن النائب عن الفاعل ضمير " ينظر " ، " وأسافله " مرفوع بالوصف قبله على أنه نائب فاعل اسم المفعول على حد : زيد يصبح مضروبا غلامه ، وكذا المصراع الثاني لكان له وجه في الجملة ، ومع إمكان هذا الوجه فالأول هو الصواب . ولهذا الوجه قادح خفي .

وأما الوجه الذي قاله الراد فلا وجه له ألبتة ، وهو خطأ صراح ، والقدح فيه أظهر من أن ينبه عليه ، وكيف يصح ما ذكره من المعنى ، وهو أن التقدير : ينظر أسافل الإنسان حال كون الإنسان منكوسا ، وهو ينظر بجملة أسافله وأعاليه معا ؟ وأيضا فلا يتم له التشبيه الذي عقد البيت لأجله ، وأيضا فالنكس قلب الأعلى أسفل لا عكسه الذي قرره هذا الراد وهو قلب الأسفل أعلى ، فذاك يسمى رفعا لا نكسا ; فلهذا عبر الشاعر في الرأس بمنكوس وفي الرجل بمرفوع ، ولو كان ما قرره هذا الراد كانت العبارة : فالإنسان ، أو فالرأس ، أي الإنسان ينظر مرفوعة أسافله ، وأيضا فجعل " منكوسا " حالا من الرأس يقدح فيه بأمرين : كونه من المبتدأ ، وأكثر النحاة على منعه ، وكونه يشعر بأن الإنسان إذا قام على الغدير يكون له حالتان : حالة يكون فيها منكوسا وحالة لا يكون فيها كذلك ، وليس الأمر كذلك ، بل لا يكون إلا منكوسا ، والأصل في الحال الانتقال ، فإذا جعل حالا من ضمير ينظر خلا من هذا القادح ، واستعمال الرأس هنا بمعنى الإنسان لا يمكن تصحيحه ، أما أولا فلفساد المعنى المراد من التشبيه الذي ساق الشاعر الكلام لأجله ، وأما ثانيا فلأن مقابلته بالرجل تأبى ذلك ، هذا هو المعول عليه هنا في إبطال ذلك . وأما عدم القرينة والتنظير ب " رأيت رأسا " فلا مدخل له هنا ، وأما قول القائل في جواب ذلك : صرح الأصوليون بعدم اشتراط الوضع في المجاز فكلام غير واقع موقعه ، ولا له تعلق بالمقصود ، وهذا البيت لا تؤخذ معرفته من علم الأصول ، بل من علم البلاغة وتوابعه ، وكذلك البيان والبديع والإنشاء والترسل ونقد الشعر :


وللعلوم رجال يعرفون بها     وللدواوين كتاب وحساب



التالي السابق


الخدمات العلمية