صفحة جزء
7 - ضوء الشمعة في عدد الجمعة

بسم الله الرحمن الرحيم

مسألة : اختلف علماء الإسلام في العدد الذي تنعقد به الجمعة على أربعة عشر قولا بعد إجماعهم على أنه لا بد من عدد ، وإن نقل ابن حزم عن بعض العلماء أنها تصح بواحد ، وحكاه الدارمي عن القاشاني فقد قال في شرح المهذب : إن القاشاني لا يعتد به في الإجماع :

أحدها : أنها تنعقد باثنين أحدهما الإمام كالجماعة ، وهو قول النخعي ، والحسن بن صالح ، وداود .

الثاني : ثلاثة أحدهم الإمام ، قال في شرح المهذب : حكي عن الأوزاعي وأبي ثور ، وقال غيره : هو مذهب أبي يوسف ومحمد حكاه الرافعي وغيره عن القديم .

الثالث : أربعة أحدهم الإمام ، وبه قال أبو حنيفة ، والثوري ، والليث ، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وأبي ثور ، واختاره وحكاه في شرح المهذب عن محمد ، وحكاه صاحب [ ص: 76 ] التلخيص قولا للشافعي في القديم ، وكذا حكاه في شرح المهذب ، واختاره المزني ، كما حكاه عنه الأذرعي في القوت ، وهو اختياري .

الرابع : سبعة حكي عن عكرمة .

الخامس : تسعة حكي عن ربيعة .

السادس : اثنا عشر في رواية عن ربيعة حكاه عنه المتولي في التتمة ، والماوردي في الحاوي ، وحكاه الماوردي أيضا عن الزهري والأوزاعي ومحمد بن الحسن .

السابع : ثلاثة عشر أحدهم الإمام ، حكي عن إسحاق بن راهويه .

الثامن : عشرون ، رواية ابن حبيب عن مالك .

التاسع : ثلاثون في رواية عن مالك .

العاشر : أربعون أحدهم الإمام ، وبه قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وعمر بن عبد العزيز ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، حكاه عنهم في شرح المهذب .

الحادي عشر : أربعون غير الإمام في أحد القولين للشافعي .

الثاني عشر : خمسون ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، وأحمد ، في إحدى الروايتين عنهما .

الثالث عشر : ثمانون ، حكاه المازري .

الرابع عشر : جمع كثير بغير قيد ، وهذا مذهب مالك ، فالمشهور من مذهبه أنه لا يشترط عدد معين ، بل تشترط جماعة تسكن بهم قرية ، ويقع بينهم البيع ولا تنعقد بالثلاثة والأربعة ونحوهم . قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري : ولعل هذا المذهب أرجح المذاهب من حيث الدليل ، وأقول : هو كذلك ؛ لأنه لم يثبت في شيء من الأحاديث تعيين عدد مخصوص ، وأنا أبين ذلك ، أما اشتراط ثمانين أو ثلاثين أو عشرين أو تسعة أو سبعة فلا مستند له البتة ، وأما الذي قال باثنين فإنه رأى العدد واجبا بالحديث والإجماع ، ورأى أنه لم يثبت دليل في اشتراط عدد مخصوص ، ورأى أن أقل العدد اثنان فقال به قياسا على الجماعة ، وهذا في الواقع دليل قوي لا ينقضه إلا نص صريح من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الجمعة لا تنعقد إلا بكذا أو بذكر عدد معين ، وهذا شيء لا سبيل إلى وجوده ، وأما الذي قال بثلاثة فإنه رأى العدد واجبا في حضور الخطبة كالصلاة ، فشرط العدد في المأمومين المستمعين للخطبة فإنه لا يحسن عد الإمام منهم ، وهو الذي يخطب ويعظ ، وأما الذي قال بأربعة فمستنده ما أخرجه الدارقطني في سننه قال : حدثنا أبو بكر النيسابوري ، ثنا محمد بن يحيى ، ثنا محمد بن وهب بن عطية ، ثنا بقية بن الوليد ، ثنا معاوية بن يحيى ، ثنا معاوية بن سعيد التجيبي ، ثنا الزهري ، عن أم عبد الله الدوسية قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الجمعة واجبة على كل قرية وإن لم يكن فيها إلا أربعة ) قال الدارقطني : لا يصح هذا عن الزهري ، وقد أخرجه البيهقي في سننه من هذا الطريق وله طريق ثان قال [ ص: 77 ] الدارقطني : حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي بن إسماعيل الأيلي ، ثنا عبيد الله بن محمد بن خنيس الكلاعي ، ثنا موسى بن محمد بن عطاء ، ثنا الوليد بن محمد - هو الموقري - ثنا الزهري ، حدثتني أم عبد الله الدوسية قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الجمعة واجبة على كل قرية فيها إمام وإن لم يكونوا إلا أربعة ) قال الدارقطني : الموقري متروك ، ولا يصح هذا عن الزهري ، كل من رواه عنه متروك ، طريق ثالث ، قال الدارقطني : حدثنا أبو عبد الله الأيلي ، ثنا يحيى بن عثمان ، ثنا عمرو بن الربيع بن طارق ، ثنا مسلمة بن علي ، عن محمد بن مطرف ، عن الحكم بن عبد الله بن سعد ، عن الزهري ، عن أم عبد الله الدوسية قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( الجمعة واجبة على أهل قرية وإن لم يكونوا إلا ثلاثة رابعهم إمامهم ) قال الدارقطني : الزهري لا يصح سماعه من الدوسية ، والحكم متروك ، طريق آخر : قال ابن عدي في الكامل : أخبرنا ابن مسلم ، ثنا محمد بن مصفى ، ثنا بقية ، ثنا معاوية بن يحيى ، ثنا معاوية بن سعيد التجيبي ، عن الحكم بن عبد الله ، عن الزهري ، عن أم عبد الله الدوسية قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الجمعة واجبة على كل قرية فيها إمام وإن لم يكونوا إلا أربعة ) حتى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة - أخرجه البيهقي من هذا الطريق وقال : الحكم بن عبد الله متروك ، ومعاوية بن يحيى ضعيف ، ولا يصح هذا عن الزهري ، قلت : قد حصل من اجتماع هذه الطرق نوع قوة للحديث ، فإن الطرق يشد بعضها بعضا خصوصا إذا لم يكن في السند متهم ، ويزيدها قوة ما أخرجه الدارقطني قال : حدثنا علي بن محمد بن عقبة الشيباني ، ثنا إبراهيم بن إسحاق بن أبي العنبس ، ثنا إسحاق بن منصور ، ثنا هريم ، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الجمعة واجبة في جماعة إلا على أربعة : عبد مملوك ، أو صبي ، أو مريض ، أو امرأة ) وجه الدلالة منه أنه أطلق الجماعة فشمل كل ما يسمى جماعة ، وذلك صادق بثلاثة غير الإمام ، وأما الذي قال باثني عشر فمستنده ما أخرجه البخاري ومسلم عن جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا ) وجه الدلالة منه أن العدد المعتبر في الابتداء يعتبر في الدوام ، فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على اثني عشر دل على أن هذا العدد كاف ، قلت : هو دال على صحتها باثني عشر بلا شبهة ، وأما اشتراط اثني عشرة أنها لا تصح بدون هذا العدد فليس فيه دلالة على ذلك ، فإن هذه واقعة عين أكثر ما فيها أنهم انفضوا وبقي اثنا عشر رجلا وتمت بهم الجمعة ، وليس فيها أنه لو بقي أقل من هذا العدد لم تتم بهم ، فإن قلت : فكيف أخذت من الأحاديث السابقة اشتراط أربعة ؟ قلت : لأن قوله [ ص: 78 ] وإن لم يكونوا إلا أربعة بيان لأقل عدد تجزئ به الجمعة أن ذلك شأن ( أن ) و ( لو ) الوصليتين كما تقرر في العربية أنهما يذكر بعدهما منتهى الأحوال وأندرها ، تقول : أحسن إلى زيد وإن أساء ، وأعط السائل ولو جاء على فرس ، فهاتان الحالتان منتهى غاية المحسن إليه والمعطى ، ومنه قوله تعالى : ( كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) فليس بعد مرتبة النفس والوالدية والأقربية مرتبة تذكر ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( وإن لم يكونوا إلا أربعة ) بيان لمنتهى مراتب العدد المجزئ ، ولو كان أقل منه مجزئا لذكره ، ويرشد إلى ذلك التعبير بالغاية في قوله في الحديث الآخر ، حتى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة ، فإن هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم تنزل إلى مراتب الأعداد حتى انتهت غايته إلى ذكر الثلاثة ، فإن قلت : فعلى هذا يشترط ثلاثة لا أربعة .

قلت : المراد ثلاثة غير الإمام ; لقوله في الحديث الآخر : ( وإن لم يكونوا إلا ثلاثة رابعهم إمامهم ) فإن قلت : مسلم دلالة الحديث على ما ذكرت غير أنه لم يثبت ثبوت الأحاديث المحتج بها فإنه ضعيف من جميع طرقه ، وإنما يحتج بما بلغ مرتبة الصحة أو الحسن ، قلت : كذلك قولهم بالأربعين حديثه ضعيف ليس له طريق صحيح ولا حسن ، قال النووي في شرح المهذب : احتج أصحابنا لاشتراط الأربعين بما أخرجه الدارقطني والبيهقي عن جابر قال : مضت السنة أن في كل ثلاثة إماما ، وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة وفطر وأضحى ، وذلك أنهم جماعة ، قال : لكنه حديث ضعيف ضعفه الحفاظ ، وقال البيهقي هو حديث لا يصح الاحتجاج به ، قال النووي : واحتجوا أيضا بأحاديث بمعناه لكنها ضعيفة ، قال : وأقرب ما يحتج به ما احتج به البيهقي والأصحاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال : ( أول من جمع بنا في المدينة سعد بن زرارة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في نقيع الخضمات ، قلت : كم كنتم ؟ قال : أربعين رجلا ) حديث حسن رواه أبو داود ، والبيهقي ، وغيرهما بأسانيد صحيحة .

قال البيهقي وغيره : وهو حديث صحيح ، قال أصحابنا : وجه الدلالة أن يقال : أجمعت الأمة على اشتراط العدد ، والأصل الظهر ، فلا تصح الجمعة إلا بعدد ثبت فيه التوقيف ، وقد ثبت جوازها بأربعين فلا يجوز بأقل منه إلا بدليل صريح ، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ولم تثبت صلاته لها بأقل من أربعين انتهى ، وأقول : لا دلالة في حديث كعب على اشتراط الأربعين ، لأن هذه واقعة عين ، وذلك أن الجمعة فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة [ ص: 79 ] قبل الهجرة ، فلم يتمكن من إقامتها هناك من أجل الكفار ، فلما هاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة كتب إليهم يأمرهم أن يجمعوا فجمعوا ، واتفق أن عدتهم إذ ذاك كانت أربعين ، وليس فيه ما يدل على أن من دون الأربعين لا تنعقد بهم الجمعة ، وقد تقرر في الأصول أن وقائع الأعيان لا يحتج بها على العموم ، وقولهم : لم يثبت أنه صلى الجمعة بأقل من أربعين يرده حديث الانفضاض السابق فإنه أتمها باثني عشر ، فدل ذلك على أن تعيين الأربعين لا يشترط ، وما أخرجه الطبراني عن أبي مسعود الأنصاري قال : أول من قدم من المهاجرين المدينة مصعب بن عمير ، وهو أول من جمع بها يوم الجمعة جمعهم قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر رجلا ، قال الحافظ ابن حجر : ويجمع بينه وبين حديث كعب بأن سعدا كان أميرا وكان مصعب إماما ، وأغرب من ذلك قول البيهقي باب ما يستدل به على أن عدد الأربعين له تأثير فيما يقصد منه الجماعة ثم أورد فيه حديث ابن مسعود قال : جمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت آخر من أتاه ونحن أربعون رجلا فقال : ( إنكم مصيبون ومنصورون ومفتوح لكم ، فمن أدرك ذلك فليتق الله وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر وليصل الرحم ) فاستدلاله بهذا في غاية العجب ؛ لأن هذه واقعة قصد فيها النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع أصحابه ليبشرهم ، فاتفق أن اجتمع له منهم هذا العدد فهل يظن أنه لو حضر أقل منهم لم يفعل ما دعاهم لأجله ؟ وإيراد البيهقي لهذا الحديث أقوى دليل على أنه لم يجد من الأحاديث ما يدل للمسألة صريحا ، وقد روى الطبراني في الأوسط من حديث أنس مرفوعا : ( إذا راح منا سبعون رجلا إلى الجمعة كانوا كسبعين موسى الذين وفدوا إلى ربهم أو أفضل ) ولم يستدل أحد بهذا الحديث على اشتراط سبعين في الجمعة مع أنه أوجه من كثير مما استدلوا به على غيره من العدد ، وقال الغزالي في البسيط في الاستدلال على اعتبار الأربعين : مستند الشافعي في هذا العدد أن الأصل في الظهر الإتمام إلا بشرائط ، والعدد بالإجماع شرط ، وللشرع اعتناء بكثرة الجمع ، ولذلك لا تنعقد جمعتان في بلدة ولا بد من مستند التقدير ، وأقل ما يحصل به الاقتداء غير كاف فيكفي أدنى مستند ، وقد روي عن جابر بن عبد الله أنه قال : مضت السنة أن في كل أربعين فما فوقها جمعة ، واستأنس الشافعي بمذهب عمر بن عبد العزيز ، وانضم إليه أنه لم يعتبر أحد زيادة على أربعين ، فكان هذا الاتقاء بالاحتياط - هذا كلام الغزالي ، وفي النهاية لإمام الحرمين نحوه ، فانظر إلى هذا المستند المركب من ثلاثة أمور : الأول : حديث ضعيف لا تقوم به الحجة مع أنه معارض بحديث آخر ، ومع كون هذا [ ص: 80 ] الحديث غير مصرح برفعه ، والحديث المعارض له مصرح برفعه ، وإذا قايست بين الحديثين من جهة الإسناد كان إسناد الحديث المعارض أمثل من إسناد هذا الحديث ، والأمر الثاني مذهب تابعي ، والشافعي رضي الله عنه لا يحتج بمذهب الصحابي فضلا عن التابعي ، ثم هو معارض بما حكى عن غيره من التابعين . والثالث الأمر المنضم إليه ولا حجة فيه مع بطلانه في نفسه ، فإنه قد ثبت اعتبار الزيادة على الأربعين عن عمر بن عبد العزيز كما تقدم ، والروايتان عنه في سنن البيهقي ، فأخرج عن سليمان بن موسى أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى أهل المياه فيما بين الشام إلى مكة جمعوا إذا بلغتم أربعين ، وأخرج عن أبي المليح الرقي قال : أتانا كتاب عمر بن عبد العزيز : إذا بلغ أهل القرية أربعين رجلا فليجمعوا . وأخرج عن معاوية بن صالح قال : كتب عمر بن عبد العزيز قال : أيما قرية اجتمع فيها خمسون رجلا فليؤمهم رجل منهم وليخطب عليهم ليصل بهم الجمعة ، ويوافق اشتراط الخمسين ما أخرجه الطبراني في الكبير والدارقطني عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الجمعة على الخمسين رجلا وليس على ما دون الخمسين جمعة ) ولفظ الدارقطني على الخمسين جمعة ليس فيما دون ذلك لكنه ضعيف ، ومع ضعفه فهو محتمل للتأويل ؛ لأن ظاهره أن هذا العدد شرط للوجوب لا شرط للصحة ، فلا يلزم من عدم وجوبها على من دون الخمسين عدم صحتها منهم ، وعندي أن الروايتين الواردتين عن عمر بن عبد العزيز ليستا باختلاف قولين له بل المراد منهما ، ومن حديث أبي أمامة المذكور ، ومن حديث جابر الذي احتجوا به للأربعين ، ومن الأثر الذي أخرجه البيهقي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : كل قرية فيها أربعون رجلا فعليهم الجمعة ، بيان شرط المكان الذي تصح فيه الجمعة لا العدد الذي تنعقد به ، فإن الجمعة لا تصح في كل مكان بل في مكان مخصوص ، إما مصر ، قال علي رضي الله عنه : لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع . وإما بلد أو قرية ، ولا تصح في فضاء ولا صحراء ، فأريد بالأحاديث والآثار المذكورة بيان المكان الذي يصلح ، ولا يصلح أن يسمى بلدا أو قرية إلا ما كان فيها من الرجال قاطنا جمع نحو الأربعين والخمسين وما شاكل ذلك ، فذكر عمر في أحد كتبه الأربعين وفي بعضها الخمسين كل منهما على وجه المثال لا التحديد بالعدد المخصوص ، ويفيد هذا أنه إذا قطن في مكان نحو هذا العدد صح أن تقام به الجمعة ، ثم إن أقامها أقل من هذا العدد وهم بعض من فيها صحت منهم ، ويؤيد هذا التأويل الذي ظهر لي وأنه هو المراد ما أخرجه البيهقي عن جعفر بن برقان قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي الكندي : انظر كل قرية [ ص: 81 ] أهل قرار ليسوا بأهل عمود ينتقلون فأمر عليهم أميرا ثم مره فليجمع بهم ، وأخرج عن الوليد بن مسلم قال : سألت الليث بن سعد فقال : كل مدينة أو قرية في جماعة وعليهم أمير أمروا بالجمعة فليجمع بهم ، فإن أهل الإسكندرية ومدائن مصر ومدائن سواحلها كانوا يجمعون الجمعة على عهد عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان بأمرهما وفيهما رجال من الصحابة . وأخرج عن عبد الله بن عمر الذي سئل عن القرى التي بين مكة والمدينة ما ترى في الجمعة فيها ؟ قال : نعم إذا كان عليهم أمير فليجمع ، ومما يؤيد أيضا أنها ذكرت لبيان المكان الصالح لا العدد الحاضر أن في حديث جابر الذي استدلوا به للأربعين عطفا على جمعة وفطر وأضحى ، فلو كان الحديث لبيان اشتراط الأربعين في الجمعة وأنها لا تصح ممن دونهم للزم مثل ذلك أيضا في الفطر والأضحى ، فكان يشترط في صحتهما حضور الأربعين ولا يصحان ممن دونهم ، وليس كذلك ، فعلم أن المراد بيان المكان الذي يصلح لمشروعية إقامة الجمعة والأعياد فيه بحيث يؤمر أهله بذلك وبالاجتماع له ، ثم أي جمع أقام الجمعة صح ذلك منهم ، وأي جمع أقام الأعياد صح ذلك منهم ، ومما يؤيد ذلك أيضا التعبير ( بفي ) حيث قيل في كل أربعين جمعة دون ( من ) وسائر حروف الجر فدل على أن المراد بالعدد إيقاعها فيهم لا منهم ولا بد ، وذلك صادق بأي جمع أقاموها في بلد استوطنه أربعون ، وهذا استنباط حسن دقيق .

والحاصل أن الأحاديث والآثار دلت على اشتراط إقامتها في بلد يسكنه عدد كثير بحيث يصلح أن يسمى بلدا ، ولم تدل على اشتراط ذلك العدد بعينه في حضورها لتنعقد ، بل أي جمع أقاموها صحت بهم ، وأقل الجمع ثلاثة غير الإمام فتنعقد بأربعة أحدهم الإمام ، هذا ما أداني الاجتهاد إلى ترجيحه ، وقد رجح هذا القول المزني كما نقله عنه الأذرعي في القوت وكفى به سلفا في ترجيحه ، فإنه من كبار الآخذين عن الإمام الشافعي ومن كبار رواة كتبه الجديدة ، وقد أداه اجتهاده إلى ترجيح القول القديم ، ورجحه أيضا من أصحابنا أبو بكر بن المنذر في الأشراف ، ونقله عنه النووي في شرح المهذب ، قال الماوردي في الحاوي : قال المزني : احتج الشافعي بما لا يثبته أصحاب الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة جمع بأربعين انتهى ، وهذا هو الذي استدل به الرافعي في الشرح ، وقال الحافظ ابن حجر في تخريجه : لم أره ، ثم أورد حديث كعب وقال : إنه لا دلالة فيه ، ثم قال الماوردي : وقد قدح في حديث كعب بأنه مضطرب لا يصح الاحتجاج به ; لأنه يروي تارة أن مصعبا [ ص: 82 ] صلى بالناس ، ويروي تارة أخرى أن سعد بن زرارة صلى بهم ، وروى تارة بالمدينة ، وتارة ببني بياضة ، فلأجل اضطرابه واختلاف روايته لا يصح الاحتجاج به ، قلت : ومن اضطرابه أنه روى أنهم كانوا أربعين ، وروى أنهم كانوا اثني عشر كما تقدم ، ثم قال الماوردي : ومن الدليل ما روى سليمان بن طريف عن مكحول عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا اجتمع أربعون رجلا فعليهم الجمعة ، وهذا الحديث أورده صاحب التتمة ثم الرافعي ، وقال الحافظ ابن حجر في تخريجه : لا أصل له ، وأورد الرافعي وغيره حديث أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا جمعة إلا بأربعين ، قال الحافظ ابن حجر أيضا : ولا أصل له ، وقال ابن الرفعة في الكفاية : إن انتفت الأدلة المنصوصة على اعتبار الأربعين قلنا : الأصل الظهر عاما ، وإنما يرد إلى ركعتين بشرائط منها العدد وأصله مشروط بالإجماع ، ولم ينقل عن الشارع لفظ صريح في التقدير ، وفهم منه طلب تكثير الجماعة لأنه لم يشرع جمعتين في بلد فأكثر كما في غيرها من الصلوات ، وأكثر ما قيل فيه أربعون فأخذنا به احتياطا ، ثم قال : وقد اعترض بعضهم على هذا بأن الإمام أحمد اشترط في عقدها خمسين في أحد قوليه .

قلت : وحاصل ما ذكره ابن الرفعة أنه لم يوجد دليل من النص على اعتبار الأربعين فعدل إلى هذه الطريقة من الاستدلال ، وهذا هو الذي عول عليه الماوردي ، وإمام الحرمين ، والغزالي ، وغيرهم ، وتبعهم الرافعي والنووي .

( خاتمة ) : اعلم أن ترجيحنا لهذا القول أولى من ترجيح المتأخرين جواز تعدد الجمعة ، فإنه ليس للشافعي نص بجواز التعدد أصلا لا في الجديد ولا في القديم ، وإنما وقع منه في القديم سكوت فاستنبطوا منه رأيا بالجواز ، ثم زادوا فرجحوه على نصوصه في الكتب الجديدة ، وهو نفسه قد قال : لا ينسب لساكت قول ، فكيف ينسب إليه قول من سكوته ويرجح على نصوصه المصرحة بخلافه ، وأما الذي نحن فيه فإنه نص له صريح ، وقد اقتضت الأدلة ترجيحه فرجحناه فهو في الجملة قول له قام الدليل على ترجيحه على قوله الثاني فهو أولى ممن ترك نصه بالكلية ، وذهب إلى ترجيح شيء خلافه لم ينص عليه البتة ، ثم يصير لهذه المسألة أسوة بالمسائل التي صحح فيها النووي القول القديم كمسألة امتداد وقت المغرب إلى مغيب الشفق . ومسألة تفضيل غسل الجمعة على غسل الميت ، ومسألة صوم الولي عن قريبه الميت وأشباه ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية