صفحة جزء
الفوائد الممتازة في صلاة الجنازة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى ، وقع السؤال عن الجنازة إذا صلى عليها أولا ، ثم حضر من لم يصل وصلى فهل تكون الصلاة الثانية فرضا أو نفلا ؟ فأجبت بأنها فرض هذا هو المنقول ، فسئلت عن تحرير ذلك من حيث النظر فإن ذلك مشكل ، فإن الفرض بالصلاة الأولى فكيف توصف الثانية بأنها فرض ؟ فوضعت هذه الكراسة لتحرير ذلك وسميتها : ( الفوائد الممتازة في صلاة الجنازة ) ونبدأ بذكر المنقول في ذلك قال الرافعي : إذا أقيمت صلاة الجنازة في جماعة ثم حضر آخرون فلهم أن يصلوا عليها أفرادا أو في جماعة أخرى وتكون صلاتهم فرضا في حقهم كما أنها فرض في حق الأولين ، بخلاف من صلاها مرة لا تستحب له إعادتها ، فإن المعاد يكون تطوعا ، وهذه [ ص: 97 ] الصلاة لا يتطوع فيها ، فإن كان قد صلى مرة وأعادها في جماعة لم تستحب أيضا في أظهر الوجهين ، ولا فرق بين أن يكون حضور الآخرين قبل الدفن أو بعده ولا يشترط ظهور الميت ، وخالف أبو حنيفة في الحالتين ، أما قبل الدفن فلأن عنده لا يصلى على الجنازة مرتين ، وأما بعده فلأن عنده لا يصلى على القبر إلا إذا دفن ولم يصل عليه ، وساعد أبا حنيفة مالك في الفصلين - هذا كلام الرافعي ، وقال النووي في شرح المهذب : إذا صلى على الجنازة جماعة أو واحد ثم صلت عليه طائفة أخرى فصلاة الجميع تقع فرضا ، قال صاحب التتمة : تنوي الطائفة الثانية بصلاتهم الفرض لأن فعل غيرهم أسقط عنهم الحرج لا الفرض ، وبسط إمام الحرمين هذا بسطا حسنا ، فقال : إذا صلى على الميت جمع يقع الاكتفاء ببعضهم ، فالذي ذهب إليه الأئمة أن صلاة كل واحد منهم تقع فريضة ، إذ ليس بعضهم بأولى بوصفه بالقيام بالفرض من بعضهم ، فوجب الحكم بالفرضية للجميع ، قال : ويحتمل أن يقال هو كإيصال المتوضئ الماء إلى رأسه دفعة ، وقد اختلفوا في أن الجميع فرض أم الفرض ما يقع عليه الاسم فقط ، ولكن قد يتخيل الفطن فرقا ويقول مرتبة الفرضية فوق مرتبة السنة ، وكل مصل في الجمع الكثير ينبغي أن لا يحرم رتبة الفرضية وقد قام بما أمر به ، وهذا لطيف لا يقع مثله في المسح ، قال : ثم قال الأئمة إذا صلت طائفة ثانية كان كصلاتهم مع الأولين في جماعة واحدة - هذا كلام إمام الحرمين وأقره في شرح المهذب ، وقال في شرح المهذب قبل ذلك ما نصه : إذا حضر بعد الصلاة عليه إنسان لم يكن صلى عليه أو جماعة صلوا عليه وكانت صلاتهم فرض كفاية بلا خلاف عندنا ، وقال أبو حنيفة : لا يصلي عليه طائفة ثانية لأنه لا يتنفل بصلاة الجنازة فلا يصليها طائفة بعد طائفة ، والجواب منع كون صلاة الثانية نافلة بل هي عندنا فرض كفاية ، قال : فإن قيل كيف تقع صلاة الطائفة الثانية فرضا ولو تركوها لم يأثموا وليس هذا شأن الفروض ؟ فالجواب أنه قد يكون ابتداء الشيء ليس بفرض ، فإذا دخل فيه صار فرضا كما إذا دخل في حج التطوع وكما في الواجب على التخيير بخصال الكفارة ، ولأن الطائفة الأولى لو كانت ألفا أو ألوفا وقعت صلاة جميعهم فرضا بالاتفاق ، ومعلوم أن الفرض كان يسقط ببعضهم ولا يقول أحد : إن الفرض يسقط بأربعة منهم على الإبهام والباقون متنفلون ، قال : فإن قيل قد وقع في كلام كثير من الأصحاب أن فرض الكفاية إذا فعله من تحصل به الكفاية سقط الفرض عن الباقين ، وإذا سقط الفرض عنه كيف قلتم تقع صلاة الثانية فرضا ؟ فالجواب أن عبارة المحققين سقط الحرج [ ص: 98 ] عن الباقين أي لا حرج عليهم في ترك هذا الفعل ، فلو فعلوه وقع فرضا كما لو فعلوه مع الأولين دفعة واحدة ، وأما عبارة من يقول : سقط الفرض عن الباقين فمعناه سقط حرج الفرض - هذا كلام شرح المهذب ، وقال ابن الصباغ في الشامل : إذا صلي على الجنازة مرة جاز أن يصلى عليها مرة أخرى ، وبه قال علي بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري وابن عمر وعائشة وإليه ذهب الأوزاعي وأحمد وقال النخعي ومالك وأبو حنيفة : لا يصلى على الجنازة مرتين إلا أن يكون الولي غائبا فيصلي غيره فيعيدها الولي ، واحتجوا بأن الصلاة الأولى قد سقط بها الفرض ، فلو صلى ثانيا لكان تطوعا ، والصلاة على الميت لا يتطوع بها ، ألا ترى أن من صلى لا يكررها ، قال : وهذا منقوض بقولهم في الولي زاد في التتمة لأن كل حالة جاز للولي أن يصلي فيها على الميت جاز لغيره قياسا على ما قبل الصلاة ، وقال في التتمة : إذا صلى على الجنازة قوم ثم جاءت جماعة أخرى وأرادوا الصلاة ينوون صلاة الفرض لأن فعل الغير ما أسقط الفرض عنه وإنما أسقط الحرج عنه .

وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابه النكت في الخلاف : مسألة يجوز لمن لم يصل على الميت مع الإمام أن يصلي عليه ، وقال أبو حنيفة : لا يجوز ، دليلنا أن سكينة ماتت ليلا فكرهوا أن يوقظوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفنوها ثم أخبر بذلك ، فخرج بهم وصلى على قبرها ، فإن قيل في عهده صلى الله عليه وسلم لا يسقط الفرض إلا بصلاته ولهذا قال : ( لا يموتن فيكم ميت ما كنت بين أظهركم إلا آذنتموني به فإن صلاتي عليه رحمة له ) قيل : لو كان كذلك لأعلمه الناس وكانوا لا يصلون وإنما ندبهم إلى إعلامه لبركة دعائه ، ولهذا قال : ( فإن صلاتي عليكم رحمة ) ولم يقل إن الفرض لم يسقط ، ولأن من جاز له أن يصلي على الميت مع الناس جاز له بعد صلاتهم كالولي ، فإن قيل : الولي له حق التقدم ، قيل له حق قبل سقوط الفرض ، فأما بعده فلا ، ولهذا لا تجب إعادتها ، قالوا : لو جاز ذلك لصلى على النبي صلى الله عليه وسلم من قدم بعد موته كمعاذ وغيره ، قلنا : هذا حجة لأنه قد صلي عليه ثلاثة أيام ، وإنما لم تجز على قبره لأنه قال عليه السلام : ( لا تتخذوا قبري مسجدا ) فإن قالوا سقط فرض الصلاة فلا يصلى عليه كمن صلى مرة ، قلنا : ينكر ممن صلى الظهر ثم أدرك جماعة ، والأصل غير مسلم ، ثم ذاك سقط الفرض بفعله حقيقة ، وهاهنا سقط الفرض عنه حكما ، فجاز أن يأتي بالعزيمة كالمسافر في الرخص ، لأن من رد السلام مرة لا يرد مرة أخرى ، ومن لم يرد يجوز أن يرد - هذا كلام الشيخ أبي إسحاق بحروفه .

[ ص: 99 ] وقد تلخص مما سقناه من النقول عدة مسالك في التعليل ، المسلك الأول : القياس على فعل الطائفة الأولى . والمسلك الثاني : القياس على أفراد الطائفة الأولى إذا كانت عددا كثيرا زيادة عما يسقط الفرض ، فإن فعل كل واحد واحد منهم يوصف بأنه فرض بالاتفاق ، ولا يقال إن الفرض فعل بعض منهم والباقي نفل ، لأن ذلك تحكم ؛ إذ ليس بعضهم بأولى بالوصف بالفرضية من بعض . المسلك الثالث : القياس على حج التطوع فإنه يكون ابتداؤه ليس بفرض ، فإذا دخل فيه صار فرضا ، ولا يستنكر هذا فله نظير في الجهاد ، فإن من لم يتعين عليه القتال إذا شرع فيه وحضر الصف تعين عليه وحرم عليه الانصراف . المسلك الرابع : القياس على المكفر إذا أتى بجميع خصال الكفارة على الترتيب فإنه يثاب على الكل ثواب الواجب مع أن الوجوب سقط بالخصلة الأولى ، وإنما قلنا في صورة المكفر : أنه يثاب على الجميع ثواب الواجب ; لأنه لو اقتصر على فرد منها لا يثاب عليه ثواب الواجب ، فانضمام غيره إليه لا ينقصه عنه . المسلك الخامس : القياس على رد السلام ، فإنه إذا رد واحد جاز لغيره أن يرد ويكون قبله فرضا ولا يوصف بأنه نفل ؛ لأن رد السلام لا تطوع فيه . المسلك السادس : منع قول الخصوم أن الفرض سقط بالأولين وإنما الساقط حرجه لا هو ، ففرق بين سقوط الحرج الذي كان يلحق الأمة لو ترك وبين سقوط الفرض . المسلك السابع : أن يقال على تقدير تسليم سقوط الفرض فرق بين سقوطه حقيقة وبين سقوطه حكما ، وفعل الأولين إنما أسقط الفرض عن غيرهم حكما ولم يسقطه حقيقة ، وإنما يسقط عنهم حقيقة بفعلهم هم ، فإذا فعلوه ثانيا سقط عنهم حقيقة ، فوصف فعلهم بأنه أسقط الفرض عنهم حقيقة ، وهذا المسلك عندي أقوى المسالك وأدقها وأقطعها للنزاع ، وكيف لا يكون كذلك وهو مسلك الشيخ أبي إسحاق إمام عصره في المناظرة والجدل غير مدافع . المسلك الثامن : القياس على من صلى الظهر ثم أعادها في جماعة ، فإن أحد الأقوال فيها أنهما جميعا يقعان عن الفرض ، ومن قال : إن الفرض الأولى قال إنه ينوي بالثانية الفرض فكذلك صلاة الجنازة . المسلك التاسع : تقرير قاعدة مهمة وذلك أن فرض الكفاية اختلف هل هو واجب على البعض من أول وهلة ؟ أو واجب على الكل ويسقط بفعل البعض ؟ فإن قلنا : هو واجب على البعض فذلك البعض المتصف بأنه واجب عليه هو الذي قام به ، سواء فعله واحد أو جمع على المعية أو على الترتيب ، وبهذا يتضح أن صلاة الطائفة الثانية توصف بالفرض قطعا ؛ لأن مجموع الطائفتين قد قام به ، وقد تقرر أن الفرض موجه [ ص: 100 ] على من قام به ، فلا سبيل إلى أن يبعض ويجعل فعل بعض من قام به فرضا وفعل بعضهم نفلا ، وإن قلنا : هو واجب على الكل فأوضح وأوضح ؛ لأن كل من صدر منه الفعل مخاطب بالوجوب وموصوف بأن الفرض توجه عليه ، فهو من هذه الجهة شبيه بفروض الأعيان من حيث توجهه على كل فرد فرد وإن اختلفا في وجوب المباشرة ، ومن توجه عليه فرض ففعله لا يقال أن فعله نفل بل هو فرض قطعا سبقه غيره إلى فعل مثله أو لا ، وهذا مسلك تحقيقي مبني على أصل قاعدة فرض الكفاية وكيفية توجهه ، والقولان فيه مشهوران ، والجمهور على الثاني ، وهو أنه واجب على الكل ويسقط بالبعض ، وممن رجحه من المتأخرين الإمام فخر الدين الرازي والشيخ تقي الدين السبكي .

المسلك العاشر : قال ابن السبكي في رفع الحاجب : الأفعال قسمان ما تتكرر مصلحته بتكرره فهو على الأعيان كالظهر مثلا مصلحتها الخضوع وهو يتكرر بتكررها ، وما لا يتكرر فهو فرض الكفاية كإنقاذ الغريق وكسوة العاري ، ومن هنا يعلم أن المقصود من فرض العين الفاعلون وأفعالهم بطريق الأصالة ، وفي فرض الكفاية الغرض وقوع الفعل من غير نظر إلى فاعله ، وهذا معنى قول الغزالي في فرض الكفاية أنه كل مهم ديني يقصد الشرع حصوله ولا يقصد به عين من يتولاه ، قال : فإن قلت : كيف تستحبون صلاة الجنازة لمن لم يصلها مع حصول الفرض بالصلاة أو لا ؟ قلت : الغرض بالذات من صلاة الجنازة انتفاع الميت ، والدعاء سبب ، فمن لم يتحقق الانتفاع يستحب الصلاة ، إذ يحتمل أن الله تعالى لم يستجب دعاء الأولين ، وإنما لم نوجب إعادة الصلاة لئلا نوجب ما لا يتناهى ، إذ لسنا على يقين من الاستجابة في واحدة من الصلوات ، وأيضا فالاستجابة ليست في قدرتنا والتوصل إليها مرة واجب وبما زاد مستحب ، فإن قلت : قد قال الأصحاب : إن صلاة الطائفة الثانية تقع فرضا مع سقوط الحرج والإثم بالأولى فكيف تكون فرضا مع جواز تركها ؟ قلت : فرض الكفاية قسمان ، ما يحصل تمام المقصود منه أو لا ولا يقبل الزيادة كإنقاذ الغريق فهذا إذا وقع فعله لا يتصور وقوعه ثانيا ، وما يتجدد به مصلحة بتكرر الفاعل كالاشتغال بالعلم وصلاة الجنازة ، فهذا كل من أوقعه وقع فرضا ، فإن قلت : رد السلام فرض كفاية ، وقد قال الأصحاب : لو سلم على جماعة فأجاب الجميع كانوا كلهم مؤدين للفرض سواء أجابوا معا أم على التعاقب ، ومقتضى ما تقولون أن الفرض فيما إذا أجابوا على التعاقب الأول لحصول تمام المقصود به ، قلت : المقصود الذي من أجله شرع أصل السلام إلقاء المودة بين المسلمين على ما قال صلى الله عليه وسلم : ( ألا أدلكم [ ص: 101 ] على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم ) والمودة لا تحصل إلا بين المجيب والمبتدئ دون الساكت ، ولذلك يستحب للثاني الجواب فإذا أجاب وقع فرضا كما قلناه ، انتهى ما في رفع الحاجب .

التالي السابق


الخدمات العلمية