صفحة جزء
حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا محمد بن زكريا الغلابي ، ثنا مهدي بن سابق النهدي ، ثنا عبد الله بن عياش ، عن أبيه ، أن عمر بن عبد العزيز شيع جنازة ، فلما انصرفوا تأخر عمر وأصحابه ناحية عن الجنازة ، فقال له أصحابه : يا أمير المؤمنين ، جنازة أنت وليها تأخرت عنها فتركتها وتركتنا ؟ فقال : نعم ، ناداني القبر من خلفي ، يا عمر بن عبد العزيز ، ألا تسألني ما صنعت بالأحبة ؟ قلت : بلى ، قال : خرقت الأكفان ، ومزقت الأبدان ، ومصصت الدم ، وأكلت اللحم ، ألا تسألني ما صنعت بالأوصال ؟ قلت : بلى ، قال : نزعت الكفين من الذراعين ، والذراعين من العضدين ، والعضدين من الكتفين ، والوركين من الفخذين ، والفخذين من الركبتين ، والركبتين من الساقين ، والساقين من القدمين ، ثم بكى عمر ، فقال : ألا إن الدنيا بقاؤها قليل ، وعزيزها ذليل ، وغنيها فقير ، [ ص: 262 ] وشبابها يهرم ، وحيها يموت ، فلا يغرنكم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها ، والمغرور من اغتر بها ، أين سكانها الذين بنوا مدائنها ، وشققوا أنهارها ، وغرسوا أشجارها ، وأقاموا فيها أياما يسيرة ، غرتهم بصحتهم ، وغروا بنشاطهم ، فركبوا المعاصي ، إنهم كانوا والله في الدنيا مغبوطين بالأموال على كثرة المنع عليه ، محسودين على جمعه ، ما صنع التراب بأبدانهم ، والرمل بأجسادهم ، والديدان بعظامهم وأوصالهم ؟ كانوا في الدنيا على أسرة ممهدة ، وفرش منضدة ، بين خدم يخدمون ، وأهل يكرمون ، وجيران يعضدون ، فإذا مررت فنادهم إن كنت مناديا ، وادعهم إن كنت لا بد داعيا ، ومر بعسكرهم ، وانظر إلى تقارب منازلهم التي كان بها عيشهم ، وسل غنيهم ما بقي من غناه ، وسل فقيرهم ما بقي من فقره ، وسلهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون ، وعن الأعين التي كانت إلى اللذات بها ينظرون ، وسلهم عن الجلود الرقيقة ، والوجوه الحسنة ، والأجساد الناعمة ، ما صنع بها الديدان ؟ محت الألوان ، وأكلت اللحمان ، وعفرت الوجوه ، ومحت المحاسن ، وكسرت الفقار ، وأبانت الأعضاء ، ومزقت الأشلاء ، وأين حجالهم وقبابهم ، وأين خدمهم وعبيدهم ، وجمعهم ومكنوزهم ؟ والله ما زودوهم فراشا ، ولا وضعوا هناك متكأ ، ولا غرسوا لهم شجرا ، ولا أنزلوهم من اللحد قرارا ، أليسوا في منازل الخلوات والفلوات ؟ أليس الليل والنهار عليهم سواء ؟ أليس هم في مدلهمة ظلماء ؟ قد حيل بينهم وبين العمل ، وفارقوا الأحبة ، فكم من ناعم وناعمة أصبحوا ووجوههم بالية ، وأجسادهم من أعناقهم نائية ، وأوصالهم ممزقة ، قد سالت الحدق على الوجنات ، وامتلأت الأفواه دما وصديدا ، ودبت دواب الأرض في أجسادهم ، ففرقت أعضاءهم ، ثم لم يلبثوا والله إلا يسيرا حتى عادت العظام رميما ، قد فارقوا الحدائق ، فصاروا بعد السعة إلى المضايق ، قد تزوجت نساؤهم ، وترددت في الطرق أبناؤهم ، وتوزعت القرابات ديارهم وتراثهم ، فمنهم والله الموسع له في قبره ، الغض الناضر فيه ، المتنعم بلذته ، يا ساكن القبر غدا ما الذي غرك من الدنيا ؟ هل تعلم أنك تبقى أو تبقى لك ؟ [ ص: 263 ] أين دارك الفيحاء ، ونهرك المطرد ؟ وأين ثمرك الناضر ينعه ؟ وأين رقاق ثيابك ؟ وأين طيبك ؟ وأين بخورك ؟ وأين كسوتك لصيفك وشتائك ؟ أما رأيته قد نزل به الأمر فما يدفع عن نفسه وجلا ؟ وهو يرشح عرقا ، ويتلمظ عطشا ، يتقلب من سكرات الموت وغمراته ، جاء الأمر من السماء ، وجاء غالب القدر والقضاء ، جاء من الأمر والأجل ما لا تمتنع منه ، هيهات هيهات يا مغمض الوالد والأخ والولد وغاسله ، يا مكفن الميت وحامله ، يا مخليه في القبر وراجعا عنه ، ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى ، يا ليت شعري بأي خديك بدأ البلا ، يا مجاور الهلكات ، صرت في محلة الموتى ، ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروجي من الدنيا ؟ وما يأتيني به من رسالة ربي ؟ ثم تمثل :


تسر بما يفنى وتشغل بالصبا كما غر باللذات في النوم حالم     نهارك يا مغرور سهو وغفلة
وليلك نوم والردى لك لازم     وتعمل فيما سوف تكره غبه
كذلك في الدنيا تعيش البهايم



ثم انصرف فما بقي بعد ذلك إلا جمعة .

حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا محمد بن الحسين الحضرمي ، [ ثنا علي بن مطر ، ثنا أسد بن زيد ] قال : كنا مع عمر بن عبد العزيز في جنازة ، فلما أن دفن الميت ، ركب بغلة له صغيرة ، ثم جاء إلى قبر ، فركز عليه المقرعة ، فقال : السلام عليك يا صاحب القبر ، قال عمر : فناداني مناد من خلفي : وعليك السلام يا عمر بن عبد العزيز ، عم تسأل ؟ فقلت : عن ساكنك وجارك ، قال : أما البدن فعندي ، والروح عرج به إلى الله عز وجل ، ما أدري أي شيء حاله ، قلت : أسألك عن ساكنك وجارك ؟ قال : دمغت المقلتين ، وأكلت الحدقتين ، ومزقت الأكفان ، وأكلت الأبدان ، ثم ذكر نحوه ، وذكر الشعر .

التالي السابق


الخدمات العلمية