صفحة جزء
حدثنا أبو بكر محمد بن جعفر البغدادي غندر ، ثنا أبو بكر محمد بن عبيد ثنا أبو نصر المخزومي الكوفي ثنا الفضل بن الربيع - حاجب هارون الرشيد - قال : دخلت على الرشيد أمير المؤمنين ، فإذا بين يديه صيارة سيوف وأنواع من العذاب ، فقال لي : يا فضل ، قلت : لبيك يا أمير المؤمنين ، قال : علي بهذا الحجازي - يعني الشافعي - فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ذهب هذا [ ص: 79 ] الرجل ، قال : فأتيت الشافعي ، فقلت له : أجب أمير المؤمنين ، فقال : أصلي ركعتين ، فصلى ثم ركب بغلة كانت له ، فصرنا معا إلى دار الرشيد ، فلما دخلنا الدهليز الأول حرك الشافعي شفتيه ، فلما دخلنا الدهليز الثاني حرك شفتيه ، فلما وصلنا بحضرة الرشيد قام إليه أمير المؤمنين كالمستريب له ، فأجلسه موضعه وقعد بين يديه يعتذر إليه وخاصة أمير المؤمنين قيام ينظرون إلى ما أعد له من أنواع العذاب ، وإذا هو جالس بين يديه ، فتحدثوا طويلا ثم أذن له بالانصراف ، فقال لي : يا فضل ، قلت : لبيك يا أمير المؤمنين ، فقال : احمل بين يديه بدرة ، فحملت فلما سرنا إلى الدهليز الأول قلت : سألتك بالذي صير غضبه عليك رضا إلا ما عرفتني ما قلت في وجه أمير المؤمنين حتى رضي ، فقال لي : يا فضل ، قلت : لبيك أيها السيد الفقيه ، قال : خذ مني واحفظ عني : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ) الآية ، اللهم إني أعوذ بنور قدسك ، وببركة طهارتك ، وبعظمة جلالك من كل عاهة وآفة وطارق الجن والإنس ، إلا طارقا يطرق بخير منك يا رحمن ، اللهم بك ملاذي قبل أن ألوذ ، وبك غياثي قبل أن أغوث ، يا من ذلت له رقاب الفراعنة ، وخضعت له مغاليظ الجبابرة ، ذكرك شعاري ، وثناؤك دثاري ، أنا في حرزك ليلي ونهاري ، ونومي وقراري ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، اضرب علي سرادقات حفظك ، وقني وأغنني بخير منك يا رحمن ، قال الفضل : فكتبتها في شركة قبائي ، وكان الرشيد كثير الغضب علي ، فكان كلما هم أن يغضب أحركها في وجهه فيرضى ، فهذا ما أدركت من بركة الشافعي .

حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن موسى ، ثنا محمد بن الحسين بن مكرم ، ثنا عبد الأعلى بن حماد النرسي ، قال : قال الرشيد يوما للفضل بن الربيع وهو واقف على رأسه : يا فضل ، أين هذا الحجازي ؟ - كالمغضب - فقلت : هاهنا فقال : علي به ، فخرجت وبي من الغم والحزن لمحبتي للشافعي لفصاحته ، وبراعته ، وعقله ، فجئت إلى بابه فأمرت من دق عليه وكان قائما يصلي فتنحنح ، فوقفت ، حتى فرغ من صلاته ، وفتح الباب فقلت : أجب أمير [ ص: 80 ] المؤمنين ، فقال : سمعا وطاعة ، وجدد الوضوء وارتدى ، وخرج يمشي حتى انتهينا إلى الدار ، فمن شفقتي عليه ، قلت : يا أبا عبد الله ، قف حتى أستأذن لك ، فدخلت على أمير المؤمنين ، فإذا هو على حالته كالمغضب ، وقال : أين الحجازي ؟ فقلت : عند السير ، فجئت إليه ، فقام يمشي رويدا ، ويحرك شفتيه ، فلما بصر به أمير المؤمنين قام إليه فاستقبله ، وقبل بين عينيه ، وهش وبش ، وقال : لم لا تزورنا أو تكون عندنا ؟ فأجلسه ، وتحدثا ساعة ، ثم أمر له ببدرة دنانير ، فقال : لا أرب لي فيه ، قال الفضل : فأومأت إليه ، فسكت ، وأمرني أمير المؤمنين أن رده إلى منزله ، فخرجت والبدرة تحمل معه ، فجعل ينفقها يمنة ويسرة حتى رجع إلى منزله وما معه دينار ، فلما دخل منزله قلت : قد عرفت محبتي لك ، فبالذي سكن غضب أمير المؤمنين عنك إلا ما علمتني ما كنت تقول في دخولك معي عليه ، فقال : حدثني مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوم الأحزاب : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ) إلى قوله : ( إن الدين عند الله الإسلام ) ، ثم قال : " وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة وديعة لي عند الله ، يؤديها إلي يوم القيامة ، اللهم إني أعوذ بنور قدسك ، وعظيم بركتك ، وعظمة طهارتك ، من كل آفة وعاهة ، ومن طوارق الليل والنهار ، إلا طارقا يطرق بخير ، اللهم أنت غياثي بك أستغيث ، وأنت ملاذي بك ألوذ ، وأنت عياذي بك أعوذ ، يا من ذلت له رقاب الجبابرة ، وخضعت له أعناق الفراعنة ، أعوذ بك من خزيك ، ومن كشف سترك ، ونسيان ذكرك ، والانصراف عن شكرك ، أنا في حرزك ليلي ونهاري ، ونومي وقراري ، وظعني وأسفاري ، وحياتي ومماتي ، ذكرك شعاري ، وثناؤك دثاري ، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك تشريفا لعظمتك ، وتكريما لسبحات وجهك ، أجرني من خزيك ومن شر عبادك ، واضرب علي سرادقات حفظك ، وأدخلني في حفظ عنايتك ، وجد علي منك بخير ، يا أرحم الراحمين " . قال عبد الأعلى : قال الفضل : فحفظته ، فلم يغضب علي الرشيد بعد ذلك . فهذا أول بركة الشافعي .

حدثنا محمد بن إبراهيم بن أحمد ، ثنا زاهر بن محمد بن الفيض بن صقر [ ص: 81 ] الحميري الشيرازي ، بها إملاء من أصله ، ثنا منصور بن عبد العزيز الثعلبي ، بمصر ، ثنا محمد بن إسماعيل بن الحبال الحميري ، عن أبيه ، قال : كان محمد بن إدريس الشافعي رجلا شريفا ، وكان يطلب اللغة والعربية والفصاحة والشعر في صغره ، وكان كثيرا ما يخرج إلى البدو ويحمل ما فيه من الأدب ، فبينا هو ذات يوم في حي من أحياء العرب إذ جاء إليه رجل بدوي ، فقال له : ما تقول في امرأة تحيض يوما وتطهر يوما ؟ فقال : لا أدري . فقال له : يا ابن أخي ، الفضيلة أولى بك من النافلة ، فقال له : إنما أريد هذا لذاك ، وعليه قد عزمت ، وبالله التوفيق ، وبه أستعين ، ثم خرج إلى مالك بن أنس ، وكان مالك صدوقا في حديثه ، صادقا في مجلسه ، وحيدا في جلوسه ، فدخل عليه ، وارتفع على أصحابه ، فنهره مالك ، فوجده موقرا في الأدب ، فرفعه على أصحابه ، وقدمه عليهم ، وقربه من نفسه ، فلم يزل مع مالك إلى أن توفي مالك رحمه الله ، ثم خرج إلى اليمن ، وقد خرج بها الخارجي على هارون الرشيد ، وطعن الشافعي عليه ، وأعرض عمن ساعده ، ورفع من قعد عنه ، فبلغ ذلك الخارجي ما يقول فيه ، فبعث إليه ، فأحضره عنده ، وهم بقتله ، فلما سمع كلامه ، وتبين له شرفه وفضله وعفته عفا عنه ، وعرض عليه قضاء اليمن ، فامتنع من ذلك ، ثم أشخص هارون جيشه إلى ذلك الخارجي ، فقبض عليه وحمل إلى بساط السلطان ، وحمل معه الشافعي ، وأحضرا جميعا بين يدي الرشيد ، فأمر بقتلهما ، فقال له الشافعي : يا أمير المؤمنين ، إن رأيت أن تسمع كلامي ، وتجعل عقوبتك من وراء لساني ، ثم تضمني بعد ذلك إلى ما يليق لي من الشدة أو الرخاء ؟ فقال له : هات . فبين له القصة ، وعرفه شرفه ، وذكر له كلاما استحسنه هارون ، وأمره أن يعيده عليه ، فأعاد تلك المعاني بألفاظ أعذب منها ، فقال له هارون : كثر الله في أهل بيتي مثلك . وكان محمد بن الحسن حاضرا ، فلم يقصر ، وخلى له السبيل ، وسأله محمد بن الحسن ، فنزل عليه أياما ، ثم سأله الشافعي أن يمكنه من كتبه ، وكتب أبي حنيفة ، فأجابه إلى ذلك ثلاث ليال ، وكان الشافعي قد استبعد الوراقين ، فكتبوا له منها ما أراد ، ثم خرج إلى الشام ، فأقام بها مدة ينقض [ ص: 82 ] أقاويل أبي حنيفة ، ويرد عليه حتى دون كلامه ، ثم استخار في الرد على مالك ، فأري ذلك في المنام ، فرد عليه خمسة أجزاء من الكلام - أو نحو ذلك - ثم خرج إلى مصر ، والدار لمالك وأصحابه يحكمون فيه ، ويستسقون بموطئه ، فلما عاينوه فرحوا به ، فلما خالفهم ، وثبوا عليه ، ونالوا منه ، فبلغ ذلك سلطانهم ، فجمعهم بين يديه ، فلما سمع كلامه ، وتبين له فضله عليهم ، قدمه عليهم ، وأمره أن يقعد في الجامع ، وأمر الحاجب أن لا يحجبه أي وقت جاء ، فلم يزل أمره يعلو ، وأصحابه يتزايدون إلى أن وردت مسألة من هارون الرشيد يدعو الناس إليها ، وقد استكتمها الفقهاء ، فأجابوه إلى ذلك ، وقبلوها منه طوعا ، ومنهم كرها ، فجيء بالمسألة إلى الشافعي ، فلما نظر فيها قال : غفل والله أمير المؤمنين عن الحق ، وأخطأ المسير عليه بهذا ، وحق الله علينا أوجب وأعظم من حق أمير المؤمنين ، وهذا خلاف ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخلاف ما اعتقدته الأئمة والخلف . فكتب بذلك إلى هارون ، فكتب في حمله مقيدا ، فحمل حتى أحضر في دار أمير المؤمنين ، فأجلس في بعض الحجر ، ثم دخل محمد بن الحسن وبشر المريسي جميعا ، فقال لهما هارون الرشيد : القرشي الذي خالفنا في مسألتنا قد أحضر في دارنا مقيدا ، فما الذي تقولان في أمره ؟ فقال محمد بن الحسن : يا أمير المؤمنين ، وقد بلغني أيضا أنه قد خالف صاحبه وقد رد عليه ، وعلى صاحبي أيضا ، وجعل لنفسه مقالة يدعو الناس إليها ، ويتشبه بالأئمة ، فإن رأيت أن تحضره حتى نبلو خبره ونقطع حجته ، ثم تضاعف عليه عقوبة أمير المؤمنين . فدعا به بقيده ، فأحضر بين يدي أمير المؤمنين ، فسلم عليه فلم يرد عليه ، وبقي قائما طويلا لا يؤذن له بالجلوس ، وأمير المؤمنين مقبل عليهما دونه ، ثم أومأ إليه ، فجلس بين الناس ، فقال محمد بن الحسن : هات مسألة يا شافعي نتكلم عليها ، فقال له الشافعي : سلوني عما أحببتم ، فتجرد بشر ، وقال له : لولا أنك في مجلس أمير المؤمنين وطاعته فرض ، لننزلن بك ما تستحقه ، فليس أنت في كنف العمر ، ولا أنت في ذمة العلم ، فيليق بك هذا . فقال له الشافعي : عض ما أنت . وذا بلغة أهل اليمن ، [ ص: 83 ] فأنشأ يقول :


أهابك يا عمرو ما هبتني وخاف بشراك إذ هبتني     وتزعم أمي عن أبيه
من أولاد حام بها عبتني

فأجابه الشافعي وهو يقول :

ومن هاب الرجال تهيبوه     ومن حقر الرجال فلن يهابا
من قضت الرجال له حقوقا     ولم يعص الرجال فما أصابا

فأجابه بشر ، وهو يقول :

هذا أوان الحرب فاشتدي زيم

فأجابه الشافعي ، وهو يقول :

سيعلم ما يريد إذا التقينا     بشط الراب أي فتى أكون

فقال بشر : يا أمير المؤمنين ، دعني وإياه . فقال له هارون : شأنك وإياه . فقال له بشر : أخبرني ما الدليل على أن الله تعالى واحد ؟ فقال الشافعي : يا بشر ، ما تدرك من لسان الخواص فأكلمك على لسانهم ، إلا أنه لا بد لي أن أجيبك على مقدارك من حيث أنت ، الدليل عليه به ، ومنه ، وإليه ، واختلاف الأصوات في المصوت ، إذا كان المحرك واحدا دليل على أنه واحد ، وعدم الضد في الكمال على الدوام دليل على أنه واحد ، وأربع نيرات مختلفات في جسد واحد متفقات على ترتيبه في استفاضة الهيكل - دليل على أن الله تعالى واحد ، وأربع طبائع مختلفات في الخافقين أضداد غير أشكال مؤلفات على إصلاح الأحوال - دليل على أن الله تعالى واحد ، وفي خلق السماوات والأرض بعد موتها ( وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ) ، كل ذلك دليل على أن الله تعالى واحد لا شريك له . فقال بشر : وما الدليل على أن محمدا رسول الله ؟ قال : القرآن المنزل ، وإجماع الناس عليه ، والآيات التي لا تليق بأحد ، وتقدير المعلوم في كون الإيمان بدليل واضح - دليل على أنه رسول الله لا بعده مرسل يعزله ، وامتحانك إياي بهذين السؤالين ، وقصدك إياي بهما دون فنون العلوم دليل [ ص: 84 ] على أنك حائر في الدين ، تائه في الله عز وجل ، ولو وسعني السكوت عن جوابك لاخترته ، وإن قلت آمرا لي : لا تشمر من سؤاليك هذين ، لقلت : بعيد من بركات اليقين ، وكيف قصرت يدي عنك ، لقد وصل لساني إليك . فقال له بشر : ادعيت الإجماع ، فهل تعرف شيئا أجمع الناس عليه ؟ قال : نعم ، أجمعوا على أن هذا الحاضر أمير المؤمنين ، فمن خالفه قتل . فضحك هارون ، وأمر بأخذ القيد عن رجليه . قال : ثم انبسط الشافعي في الكلام ، فتكلم بكلام حسن ، فأعجب به الرشيد ، وقربه من مجلسه ، ورفعه عليهما . قال : ثم غاصا في اللغة - وكان بشر مدلا بها - حتى خرجا إلى لغة أهل اليمن ، فانقطع بشر في مواضع كثيرة ، فقال محمد بن الحسن لبشر : يا هذا ، إن هذا رجل قرشي ، واللغة من نسكه ، وأنت تتكلفها من غير طبع ، فدعوني ومالكا ، ودعوا مالكا معي . قال الشافعي : إن كنت أبا ثور يعقر الحرف . فجرى بينهما عشر مسائل انقطع محمد بن الحسن في خمس منها ، حتى أمر هارون الرشيد بجز رجل محمد بن الحسن ، فأراد الشافعي أن يكافئه ؛ لما كان له عليه من اليد ، فقال : يا أمير المؤمنين ، والله ما رأيت يمنيا هو أفقه منه ، وجعل يمدحه بين يدي أمير المؤمنين ، ويفضله ، فعلم هارون الرشيد ما يريد الشافعي بذلك ، فخلع عليهما ، وحمل كل واحد منهما على مهري قرطاس ، يريد بذلك مرضاة الشافعي ، وخلع على الشافعي خاصة ، وأمر له بخمسين ألف درهم ، فانصرف إلى البيت ، وليس معه شيء ، قد تصدق بجميع ذلك ، ووصل به الناس ، فقال له هارون الرشيد : أنا أمير المؤمنين ، وأنت القدوة ، فلا يدخل علي أحد من الفقهاء قبلك ، فأنشأ محمد بن الحسن يقول :

أخذت نارا بيدي     أشعلتها في كبدي
فقلت ويحي سيدي     قتلت نفسي بيدي

.

التالي السابق


الخدمات العلمية