صفحة جزء


حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا عبد الله بن أحمد ، قال : كتب إلي أبو نصر الفتح بن شخرف بخط يده ، قال : قال أبو حطيط - رجل قد سماه من أهل الفضل من أهل خراسان - قال : حبس أحمد بن حنبل وبعض أصحابه في المحنة قبل أن يضرب ، قال أحمد بن حنبل : " لما كان الليل نام من كان معي من أصحابي ، وأنا متفكر في أمري ، فإذا أنا برجل طويل يتخطى الناس حتى دنا مني " ، فقال : أنت أحمد بن حنبل ؟ فسكت ، فقالها ثانية فسكت ، فقال في الثالثة : أنت أبو عبد الله أحمد بن حنبل ؟ قلت : " نعم " ، قال : اصبر ولك الجنة ، قال أبو عبد الله : " فلما مسني حر السوط ذكرت قول الرجل " .

حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا أحمد بن علي الأبار ، حدثني يعقوب أبو يوسف ابن أخي معروف الكرخي ، قال : " بينما أنا نائم في أيام المحنة إذ دخل رجل عليه جبة صوف بلا كمين ، فقلت له : من أنت ؟ قال : أنا موسى بن عمران ، فقلت : أنت موسى بن عمران الذي كلمك الله وما بينك وبينه ترجمان ؟ فبينما أنا كذلك إذ هبط علينا رجل من السقف عليه حلتان جعد الشعر فقلت : من هذا ؟ قال : هذا عيسى ابن مريم ، ثم قال موسى : أنا موسى بن عمران الذي كلمني الله وما بيني وبينه ترجمان ، وهذا عيسى ابن مريم ونبيكم صلى الله عليه وسلم وأحمد بن حنبل وحملة العرش وجميع الملائكة يشهدون أن القرآن كلام الله غير مخلوق " .

حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا محمد بن عبدوس بن كامل ، ثنا محمد بن الفرج [ ص: 194 ] أبو جعفر - جار أحمد بن حنبل - قال : " لما نزل بأحمد بن حنبل ما نزل من الحبس والظلم والضرب ، دخلت علي من ذلك مصيبة ، فأتيت في منامي فقيل لي : أما ترضى أن يكون أحمد بن حنبل عند الله تعالى بمنزلة أبي السواد العدوي ، أولست تروي خبر أبي السواد ؟ قلت : بلى ، قال : فإنه عند الله بتلك المنزلة " .

قال أبو جعفر محمد بن الفرج : وحدثنا علي بن أبي عاصم ، عن بسطام بن مسلم ، عن الحسن بن أبي الحسن ، قال : دعا بعض مترفي هذه الأمة أبا السواد العدوي فسأله عن شيء من أمر دينه فأجابه بما يعلم ، فلم يوافقه على ذلك ، فقال : وإلا فأنت بريء من الإسلام ، قال : " فإلى أي دين أفر ؟ " قال : وإلا فامرأته طالق ، قال : " فإلى من آوي بالليل " ؟ فضربه أربعين سوطا ، فقال : " والله لا تذهب أسواطه عند الله " ، قال أبو جعفر محمد بن الفرج فأتيت أبا عبد الله فأخبرته بذلك فسر به .

حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبو معمر القطيعي قال : " لما حضرنا في دار السلطان أيام المحنة ، وكان أبو عبد الله أحمد بن حنبل قد أحضر ، فلما رأى الناس يجيئون انتفخت أوداجه واحمرت عيناه ، وذهب ذلك اللين الذي كان فيه ، قلت : إنه قد غضب لله " . قال أبو معمر : " فلما رأيت ما به قلت : يا أبا عبد الله أبشر " .

وقد حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان ، عن الوليد بن عبد الله بن جميع ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، قال : " كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من إذا أريد على شيء من دينه رأيت حماليق عينيه في رأسه تدور كأنه مجنون " .

حدثنا الحسين بن محمد ، ثنا محمد بن إسماعيل بن أحمد بن صالح بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبو عبد الله السلال قال : سمعت أبا عبد الله محمد بن نوح ، قال : قلت لأبي عبد الله : إن رأيتني ضعفت أو خذلت فلا تضعف . فلست أنت كأنا ، فقال لي : أبشر فإنك على إحدى ثلاث : إما أن لا تراه ولا يراك ، وإما رأيته فكذبته فقتلك فكنت من أفضل الشهداء ، وإما رأيته فصدقته فحال الله بينك وبينه .

أخبرنا عبد الله بن جعفر ، وحدثني عنه الحسين بن محمد ، ثنا أبي ، ثنا أحمد [ ص: 195 ] بن عبد الله ، قال : قال أحمد بن غسان : حملت أنا وأحمد بن حنبل في محمل على جمل يراد بنا المأمون ، فلما صرنا قريب عانة قال لي أحمد : قلبي يحس أن رجاء الحصار يأتي في هذه الليلة ، فإن أتى وأنا نائم فأيقظني ، وإن أتى وأنت نائم أيقظتك . فبينما نحن نسير إذ قرع المحمل قارع فأشرف أحمد ، فإذا برجل يعرفه بالصفة وكان لا يأوي المدائن والقرى ، وعليه عباءة قد شدها على عنقه ، فقال : يا أبا عبد الله ، إن الله قد رضيك له وافدا ، فانظر لا يكون وفودك على المسلمين وفودا مشئوما ، واعلم أن الناس إنما ينتظرونك لأن تقول فيقولوا ، واعلم أنما هو الموت والجنة . فلما أشرفنا على البذيذون قال لي : يا أحمد بن غسان إني موصيك بوصية فاحفظها عني ، راقب الله في السراء والضراء ، واشكره على الشدة والرخاء ، وإن دعانا هذا الرجل أن نقول : القرآن مخلوق فلا تقل ، وإن أنا قلت فلا تركن إلي ، وتأول قول الله تعالى : ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) فتعجبت من حداثة سنه وثبات قلبه . فلم يكن بأسرع أن خرج خادم وهو يمسح عن وجهه بكمه وهو يقول : عز علي يا أبا عبد الله أن جرد أمير المؤمنين سيفا لم يجرده قط وبسط نطعا لم يبسطه قط ، ثم قال : وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا رفعت عن أحمد وصاحبه حتى يقولا : القرآن مخلوق قال : فنظرت إلى أحمد وقد برك على ركبتيه ولحظ السماء بعينيه ثم قال : سيدي ، غر هذا الفاجر حلمك حتى يتجرأ على أوليائك بالقتل والضرب ، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته .

قال : فوالله ما مضى الثلث الأول من الليل إلا ونحن بصيحة وضجة ، وإذا رجاء الحصار قد أقبل علينا فقال : صدقت يا أبا عبد الله القرآن كلام الله غير مخلوق . قد مات والله أمير المؤمنين .

حدثنا الحسين بن محمد بن إبراهيم القاضي الإيذجي - بها - حدثني أبو عبد الله الجوهري ، ثنا يوسف بن يعقوب بن الفرج ، قال : سمعت علي بن محمد القرشي قال : لما قدم أحمد بن حنبل ليضرب بالسياط أيام المحنة وجرد وبقي في سراويله ، فبينما هو يضرب إذ انحل السراويل فجعل يحرك شفتيه بشيء فرأيت [ ص: 196 ] يدين خرجا من تحته وهو يضرب فشدا السراويل ، قال : فلما فرغوا من الضرب قلنا له : ما كنت تقول حين انحل السراويل ؟ قال : قلت : " يا من لا يعلم العرش منه أين هو إلا هو ، إن كنت أنا على الحق فلا تبد عورتي ، فهذا الذي قلت " .

حدثنا محمد بن جعفر ، وعلي بن أحمد ، قالا : ثنا محمد بن إسماعيل بن أحمد ، ثنا أبو الفضل صالح بن أحمد بن حنبل ، قال : سمعت أبي يقول : " لما دخلنا على إسحاق بن إبراهيم قرئ علينا كتابه الذي كان صار إلى طرسوس فكان فيما قرئ علينا : ( ليس كمثله شيء ) وهو خالق كل شيء ، فقلت : ( وهو السميع البصير ) فقال بعض من حضر : سله ما أراد بقوله : ( وهو السميع البصير ) ؟ " فقال أبي رحمه الله : فقلت : " كما قال الله تعالى " . قال صالح : ثم امتحن القوم فوجه بمن امتنع إلى الحبس ، فأجاب القوم جميعا غير أربعة : أبي ، ومحمد بن نوح ، وعبيد الله بن عمر القواريري ، والحسن بن حماد سجادة ، ثم أجاب عبيد الله بن عمر والحسن بن حماد ، وبقي أبي ومحمد بن نوح في الحبس ، فمكثا أياما في الحبس ، ثم ورد الكتاب من طرسوس بحملنا فحمل أبي ومحمد بن نوح مقيدين زميلين ، وأخرجا من بغداد ، فسرنا معهما إلى الأنبار ، فسأل أبو بكر الأحول أبي فقال : يا أبا عبد الله إن عرضت على السيف تجيب ؟ فقال : " لا " ، قال أبي : فانطلق بنا حتى نزلنا الرحبة ، فلما رحلنا منها - وذلك في جوف الليل - وخرجنا من الرحبة عرض لنا رجل فقال : أيكم أحمد بن حنبل ؟ فقيل له : هذا ، فسلم على أبي ثم قال له : يا هذا ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة هاهنا ، ثم سلم وانصرف . فقلت : من هذا ؟ فقالوا : " هذا رجل من العرب من ربيعة يعمل الشعر في البادية ، يقال له : جابر بن عامر ، فلما صرنا إلى أذنة ورحلنا منها - وذلك في جوف الليل - فتح لنا بابها فلقينا رجل ونحن خارجون من الباب وهو داخل ، فقال : البشرى ، قد مات الرجل " ، قال أبي : " وكنت أدعو الله أن لا أراه " ، قال أبو الفضل صالح : فصار أبي ومحمد بن نوح إلى طرسوس وجاء - يعني المأمون - من البذيذون ووفدوا في أقيادهما إلى الرقة في سفينة مع قوم محتبسين ، فلما صارا بعمان [ ص: 197 ] توفي محمد بن نوح رحمه الله ، فتقدم أبي فصلى عليه ، ثم صار إلى بغداد وهو مقيد فمكث بالياسرية أياما ، ثم صير إلى الحبس في دار اكتريت له عند دار عمارة ، ثم نقل بعد ذلك إلى حبس العامة في درب الموصلية ، فمكث في السجن منذ أخذ وحمل إلى أن ضرب ، وخلي عنه ثمانية وعشرين شهرا ، قال أبي : " فكنت أصلي بهم وأنا مقيد ، وكنت أرى بوران يحمل له في زورق ماء باردا فيذهب به إلى السجن " .

حدثنا محمد بن جعفر ، وعلي بن أحمد ، والحسين بن محمد ، قالوا : ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو الفضل صالح بن أحمد بن حنبل ، قال أبي : لما كان في شهر رمضان لليلة سبع عشرة خلت منه حولت من السجن إلى دار إسحاق بن إبراهيم ، وأنا مقيد بقيد واحد ، يوجه إلي في كل يوم رجلان سماهما أبي ، قال أبو الفضل : وهما أحمد بن رباح وأبو شعيب الحجاج ، يكلماني ويناظراني ، فإذا أرادا الانصراف دعوا بقيد فقيدت به ، فمكثت على هذه الحال ثلاثة أيام ، فصار في رجلي أربعة أقياد ، فقال لي أحدهما في بعض الأيام في كلام دار بيننا ، وسألته عن علم الله فقال : علم الله مخلوق ، فقلت له : يا كافر كفرت ، فقال لي الرسول الذي كان يحضر معهم من قبل إسحاق : هذا رسول أمير المؤمنين . قال : فقلت له : إن هذا زعم أن علم الله مخلوق ، فنظر إليه كالمنكر عليه ما قال ، ثم انصرفا . قال أبي : وأسماء الله في القرآن ، والقرآن من علم الله ، فمن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر ، ومن زعم أن أسماء الله مخلوقة فقد كفر . قال أبي رحمه الله : فلما كانت ليلة الرابعة بعد العشاء الآخرة وجه المعتصم بنا إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي يأمره بحملي ، فأدخلت على إسحاق فقال لي : يا أحمد ، إنها والله نفسك ، إنه حلف أن لا يقتلك بالسيف وأن يضربك ضربا بعد ضرب ، وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشمس ، أليس قد قال الله عز وجل : ( إنا جعلناه قرآنا عربيا ) فيكون مجعولا إلا مخلوقا ؟ قال أبي : فقلت له : قد قال : ( فجعلهم كعصف مأكول ) أفخلقهم ؟ ، فقال : اذهبوا به ، قال أبي : فأنزلت إلى شاطئ دجلة فأحدرت إلى الموضع المعروف بباب البستان ومعي بغا الكبير ورسول من قبل إسحاق . قال : فقال [ ص: 198 ] بغا لمحمد المحاربي بالفارسية : ما تريدون من هذا الرجل ؟ قال : يريدون منه أن يقول : القرآن مخلوق ، فقال : ما أعرف شيئا من هذه الأقوال ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وقرابة أمير المؤمنين من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أبي : فلما صرنا إلى الشط أخرجت من الزورق فجعلت أكاد أخر على وجهي حتى انتهي بي إلى الدار فأدخلت ، ثم عرج بي إلى الحجرة فصيرت في بيت منها وأغلق علي الباب وأقعد عليه رجل ، وذلك في جوف الليل ، وليس في البيت سراج ، فاحتجت إلى الوضوء فمددت يدي أطلب شيئا ، فإذا أنا بإناء فيه ماء وطشت ، فتهيأت للصلاة وقمت أصلي ، فلما أصبحت جاءني الرسول فأخذ بيدي فأدخلني الدار ، وإذا هو جالس وابن أبي دؤاد حاضر قد جمع أصحابه ، والدار غاصة بأهلها ، فلما دنوت سلمت ، فقال لي : ادنه ، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه ، ثم قال لي : اجلس ، فجلست وقد أثقلتني الأقياد ، فلما مكثت هنيهة قلت : تأذن في الكلام ؟ فقال : تكلم ، فقلت : إلام دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، قال : قلت : أنا أشهد أن لا إله إلا الله . ثم قلت له : إن جدك ابن عباس يحكي أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله ، قال : " أتدرون ما الإيمان بالله ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وأن تعطوا الخمس من الغنم " .

قال أبو الفضل : حدثناه أبي ، ثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة قال : حدثني أبو حمزة قال : قال : سمعت ابن عباس قال : " إن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله فذكر الحديث . قال أبو الفضل : قال أبي : فقال لي عند ذلك : لولا أن وجدتك في يد من كان قبلي ما تعرضت لك ، ثم التفت إلى عبد الرحمن بن إسحاق ، فقال له : يا عبد الرحمن ، ألم آمرك أن ترفع المحنة ؟ قال أبي : فقلت في نفسي : الله أكبر ، إن في هذا فرجا للمسلمين . قال : ثم قال : ناظروه وكلموه ، ثم قال : يا عبد الرحمن كلمه ، فقال لي عبد الرحمن : ما تقول في القرآن ؟ قال : قلت : ما تقول في علم الله ؟ فسكت . قال أبي : فجعل [ ص: 199 ] يكلمني هذا وهذا فأرد على هذا وأكلم هذا ، ثم أقول : يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله عليه الصلاة والسلام أقول به ، أراه قال : فيقول ابن أبي دؤاد : فأنت ما تقول إلا ما في كتاب الله أو سنة رسوله . قال : فقلت : تأولت تأويلا فأنت أعلم وما تأولت تحبس عليه وتقيد عليه ، قال : فقال ابن أبي دؤاد : هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسلهم ، فيقول : ما تقولون فيه ؟ فيقولون : يا أمير المؤمنين هو ضال مضل مبتدع . قال : ولا يزالون يكلموني ، قال : وجعل صوتي يعلو أصواتهم ، وقال إنسان منهم : قال الله تعالى : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ) أفيكون محدثا إلا مخلوقا ؟ قال : فقلت له : قال الله تعالى : ( ص والقرآن ذي الذكر ) فالقرآن هو الذكر ، والذكر هو القرآن ، ويلك ليس فيها ألف ولام ، قال : فجعل ابن سماعة لا يفهم ما أقول ، قال : فجعل يقول لهم : ما يقول ؟ قال : فقالوا : إنه يقول كذا وكذا ، قال : فقال لي إنسان منهم : حديث خباب " تقرب إلى الله بما استطعت فإنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه " ، قال : أبي : فقلت لهم : نعم ، هكذا هو ، فجعل ابن أبي دؤاد ينظر إليه ويلحظه متغيظا عليه ، قال أبي : وقال بعضهم : أليس قال : ( خالق كل شيء ) قلت : قد قال : ( تدمر كل شيء ) فدمرت إلا ما أراد الله . قال : فقال بعضهم : فما تقول وذكر حديث عمران بن حصين : " إن الله كتب الذكر " ، فقال : إن الله خلق الذكر ، فقلت : هذا خطأ ، حدثناه غير واحد " إن الله كتب الذكر " قال أبي : فكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فتكلم . فلما قارب الزوال ، قال لهم : قوموا ثم حبس عبد الرحمن بن إسحاق ، فخلا بي وبعبد الرحمن فجعل يقول : أما تعرف صالحا الرشيدي كان مؤدبي ، وكان في هذا الموضع جالسا - وأشار إلى ناحية من الدار - قال : فتكلم وذكر القرآن فخالفني ، فأمرت به فسحب ووطئ ، ثم جعل يقول لي : ما أعرفك ، ألم تكن تأتينا ؟ فقال له عبد الرحمن : يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة يرى طاعتك والحج والجهاد معك ، وهو ملازم لمنزله ، قال : فجعل يقول : والله إنه لفقيه وإنه لعالم وما يسوءني أن يكون معي يرد على أهل الملك ، [ ص: 200 ] ولئن أجابني إلى شيء له فيه أدنى فرج لأطلقن عنه بيدي ، ولأطأن عقبه ، ولأركبن إليه بجندي ، قال : ثم يلتفت إلي فيقول : ويحك يا أحمد ما تقول ؟ قال : فأقول : يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما طال بنا المجلس ضجر فقام ، فرددت إلى الموضع الذي كنت فيه ، ثم وجه إلي برجلين سماهما وهما : صاحب الشافعي وغسان من أصحاب ابن أبي دؤاد يناظراني فيقيمان معي حتى إذا حضر الإفطار وجه إلينا بمائدة عليها طعام فجعلا يأكلان ، وجعلت أتعلل حتى ترفع المائدة ، وأقاما إلى غدو ، في خلال ذلك يجيء ابن أبي دؤاد فيقول لي : يا أحمد يقول لك أمير المؤمنين : ما تقول ؟ فأقول له : أعطوني شيئا من كتاب الله عز وجل أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به ، فقال لي ابن أبي دؤاد : والله لقد كتب اسمك في السبعة فمحوته ، ولقد ساءني أخذهم إياك ، وإنه والله ليس السيف إنه ضرب بعد ضرب ، ثم يقول لي : ما تقول ؟ فأرد عليه نحوا مما رددت عليه ، ثم يأتيني رسوله فيقول : أين أحمد بن عمار أجب الرجل الذي أنزلت في حجرته ، فيذهب ثم يعود ، فيقول : يقول لك أمير المؤمنين : ما تقول ؟ فأرد عليه نحوا مما رددت على ابن أبي دؤاد ، فلا تزال رسله تأتي أحمد بن عمار وهو يختلف فيما بيني وبينه ويقول : يقول لك أمير المؤمنين : أجبني حتى أجيء فأطلق عنك بيدي .

قال : فلما كان في اليوم الثاني أدخلت عليه ، فقال : ناظروه وكلموه ، قال : فجعلوا يتكلمون هذا من هاهنا وهذا من هاهنا فأرد على هذا وهذا ، فإذا جاءوا بشيء من الكلام مما ليس في كتاب الله عز وجل ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فيه خبر ولا أثر ، قلت : ما أدري ما هذا ، قال : فيقولون : يا أمير المؤمنين إذا توجهت له الحجة علينا وثب ، وإذا كلمناه بشيء يقول : لا أدري ما هذا ؟ قال : فيقول : ناظروه ، ثم يقول : يا أحمد إني عليك شفيق ، فقال رجل منهم : أراك تذكر الحديث وتنتحله ، فقال له : ما تقول في قول الله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) فقال : خص الله بها المؤمنين ، قال : فقلت له : ما تقول إن كان قاتلا أو عبدا أو يهوديا أو نصرانيا ؟ فسكت ، قال أبي : وإنما احتججت عليهم [ ص: 201 ] بهذا لأنهم كانوا يحتجون علي بظاهر القرآن ولقوله أراك تنتحل الحديث ، وكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول : يا أمير المؤمنين والله لئن أجابك لهو أحب إلي من مائة ألف دينار ومائة ألف دينار فيعدد ما شاء الله من ذلك . ثم أمرهم بعد ذلك بالقيام ، وخلا بي وبعبد الرحمن فيدور بيننا كلام كثير وفي خلال ذلك يقول : ندعو أحمد بن أبي دؤاد ؟ فأقول ذلك إليك ، فيوجه إليه فيجيء فيتكلم ، فلما طال بنا المجلس قام ورددت إلى الموضع الذي كنت فيه ، وجاءني الرجلان اللذان كانا عندي بالأمس فجعلا يتكلمان ، فدار بيننا كلام كثير ، فلما كان وقت الإفطار جيء بطعام على نحو مما أتي به في أول ليلة فأفطروا فتعللت ، وجعلت رسله تأتي أحمد بن عمار فيمضي إليه فيأتيني برسالة على نحو مما كان في أول ليلة .

وجاء ابن أبي دؤاد ، فقال : إنه قد حلف أن يضربك ضربا وأن يحبسك في موضع لا ترى فيه الشمس ، فقلت له : فما أصنع ؟ حتى إذا كدت أن أصبح قلت : لخليق أن يحدث في هذا اليوم من أمري شيء ، وقد كنت خرجت تكتي من سراويلي فشددت بها الأقياد أحملها بها إذا توجهت إليه ، فقلت لبعض من كان معي الموكل بي : أريد لي خيطا ، فجاءني بخيط فشددت به الأقياد وأعدت التكة في سراويلي ولبستها كراهية أن يحدث شيء من أمري فأتعرى ، فلما كان في اليوم الثالث أدخلت عليه والقوم حضور ، فجعلت أدخل من دار إلى دار ، وقوم معهم السيوف ، وقوم معهم السياط وغير ذلك من الزي والسلاح ، وقد حشيت الدار بالجند ، ولم يكن في اليومين الماضيين كبير أحد من هؤلاء حتى إذا صرت إليه قال : ناظروه وكلموه ، فعادوا لمثل مناظرتهم ، فدار بيننا وبينهم كلام كثير حتى إذا كان في الوقت الذي كان يخلو بي فيه فجاءني ثم اجتمعوا فشاورهم ثم نحاهم ، ودعاني فخلا بي وبعبد الرحمن ، فقال لي : ويحك يا أحمد أنا والله عليك شفيق ، وإني لأشفق عليك مثل شفقتي على هارون ابني فأجبني ، فقلت : يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلما ضجر وطال المجلس ، قال : عليك لعنة الله ، لقد طمعت فيك ، خذوه ، اخلعوه ، اسحبوه ، قال : فأخذت فسحبت ، ثم خلعت ، ثم [ ص: 202 ] قال : العقابين والسياط فجيء بعقابين والسياط ، قال أبي : وقد كان صار إلي شعرتان من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فصررتهما في كم قميصي فنظر إسحاق بن إبراهيم إلى الصرة في كم قميصي فوجه إلي : ما هذا المصرور في كمك ؟ فقلت : شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم ، فسعى بعض القوم إلى القميص ليحرقه في وقت ما أقمت بين العقابين ، فقال لهم : لا تحرقوه وانزعوه عنه ، قال أبي : فظننت أنه بسبب الشعر الذي كان فيه ، ثم صيرت بين العقابين وشدت يدي ، وجيء بكرسي فوضع له وابن أبي دؤاد قائم على رأسه ، والناس اجتمعوا وهم قيام ممن حضر ، فقال لي إنسان ممن شدني : خذ أي الخشبتين بيدك وشد عليها ، فلم أفهم ما قال ، قال : فتخلعت يدي لما شدت ولم أمسك الخشبتين ، قال أبو الفضل : ولم يزل أبي رحمه الله يتوجع منها من الرسغ إلى أن توفي ، ثم قال للجلادين : تقدموا فنظر إلى السياط ، فقال : ائتوا بغيرها ، ثم قال لهم : تقدموا ، فقال لأحدهم : أدنه أوجع قطع الله يدك ، فتقدم فضربني سوطين ثم تنحى ، فلم يزل يدعو واحدا بعد واحد فيضربني سوطين ويتنحى ، ثم قام حتى جاءني وهم محدقون به ، فقال : ويحك يا أحمد تقتل نفسك ، ويحك أجبني حتى أطلق عنك بيدي .

قال فجعل بعضهم يقول لي : ويحك إمامك على رأسك قائم ، قال : وجعل يعجب وينخسني بقائم سيفه ويقول : تريد أن تغلب هؤلاء كلهم ، وجعل إسحاق بن إبراهيم يقول : ويلك ، الخليفة على رأسك قائم ، قال : ثم يقول بعضهم : يا أمير المؤمنين دمه في عنقي ، قال : ثم رجع فجلس على الكرسي ثم قال للجلاد : أدنه ، شد قطع الله يدك ، ثم لم يزل يدعو بجلاد بعد جلاد فيضربني سوطين ويتنحى وهو يقول له : شد قطع الله يدك ، ثم قام لي الثانية فجعل يقول : يا أحمد أجبني وجعل عبد الرحمن بن إسحاق يقول لي : من صنع بنفسه من أصحابك في هذا الأمر ما صنعت ؟ هذا يحيى بن معين وهذا أبو خيثمة وابن أبي (؟) وجعل يعدد علي من أجاب ، وجعل هو يقول : ويحك أجبني ، قال : فجعلت أقول نحوا مما كنت أقول لهم ، قال : فرجع فجلس ثم جعل يقول للجلاد : شد - قطع الله يدك - قال أبي : فذهب عقلي وما عقلت إلا وأنا في حجرة طلق عني الأقياد ، [ ص: 203 ] فقال إنسان ممن حضر : إنا كببناك على وجهك وطرحنا على ظهرك سارية ودسناك ، قال أبي : فقلت : ما شعرت بذلك ، قال : فجاءوني بسويق فقالوا لي : اشرب وتقيأ ، فقلت : لا أفطر ، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم ، قال أبي : فنودي بصلاة الظهر فصلينا الظهر ، قال ابن سماعة : صليت والدم يسيل من ضربك ؟ فقلت : قد صلى عمر وجرحه يثعب دما فسكت ، ثم خلى عنه ووجه إليه برجل ممن يبصر الضرب والجراحات ليعالج فيها ، فنظر إليه ، فقال لنا : والله لقد رأيت من ضرب ألف سوط ما رأيت ضربا أشد من هذا ، لقد جر عليه من خلفه ومن قدامه ، ثم أدخل ميلا في بعض تلك الجراحات ، وقال : لم يثعب ، فجعل يأتيه ويعالجه ، وقد كان أصاب وجهه غير ضربة ، ثم مكث يعالجه ما شاء الله ، ثم قال : إن هاهنا شيئا أريد أن أقطعه ، فجاء بحديدة فجعل يعلق اللحم بها ويقطعه بسكين معه ، وهو صابر لذلك يحمد الله في ذلك ، فيراه منه ولم يزل يتوجع من مواضع منه ، وكان أثر الضرب بينا في ظهره إلى أن توفي رحمه الله .

قال أبو الفضل : سمعت أبي يقول : " والله لقد أعطيت المجهود من نفسي ، ولوددت أن أنجو من هذا الأمر كفافا لا علي ولا لي " .

قال أبو الفضل : فأخبرني أحد الرجلين اللذين كانا معه ، وقد كان هذا الرجل - يعني صاحب الشافعي - صاحب حديث قد سمع ونظر ، ثم جاءني بعد فقال لي : يا ابن أخي رحمة الله على أبي عبد الله ، والله ما رأيت أحدا يشبهه ، قد جعلت أقول له في وقت ما يوجه إلينا بالطعام : يا أبا عبد الله أنت صائم وأنت في موضع مسغبة ، ولقد عطش فقال لصاحب الشراب : ناولني فناوله قدحا فيه ماء وثلج فأخذه فنظر إليه هنيهة ثم رده عليه ، قال : فجعلت أعجب إليه من صبره على الجوع والعطش وما هو فيه من الهول ، قال أبو الفضل : وكنت ألتمس وأحتال أن أوصل إليه طعاما أو رغيفا أو رغيفين في هذه الأيام ، فلم أقدر على ذلك ، وأخبرني رجل حضره ، قال : تفقدته في هذه الأيام وهم يناظرونه ويكلمونه ، فما لحن في كلمة وما ظننت أن أحدا يكون في مثل شجاعته وشدة قلبه .

قال أبو الفضل : " دخلت على أبي يوما فقلت له : بلغني أن رجلا جاء إلى فضل الأنماطي فقال له : اجعلني في حل إذ لم أقم بنصرتك ، فقال فضل : لا جعلت أحدا [ ص: 204 ] في حل ، فتبسم أبي وسكت ، فلما كان بعد أيام قال : مررت بهذه الآية : ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) فنظرت في تفسيرها فإذا هو ما حدثني به هاشم بن القاسم ، ثنا المبارك ، قال : حدثني من سمع الحسن ، يقول : إذا جاءت الأمم بين يدي رب العالمين يوم القيامة نودوا ليقم من أجره على الله ، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا ، قال أبي : فجعلت الميت في حل من ضربه إياي ، ثم جعل يقول : وما على رجل أن لا يعذب الله بسببه أحدا " .

التالي السابق


الخدمات العلمية