صفحة جزء


قال الشيخ أبو نعيم رحمة الله تعالى عليه :

ذكرنا أصح الروايات في المحنة ، وهو ما رواه أبو الفضل صالح ابنه .

ونروي فيها أيضا ما حدثناه عبد الله بن جعفر بن أحمد ، وحدثني عنه الحسين بن محمد ، ثنا أبي ، ثنا أحمد بن أبي عبيد الله - وليس بالوراق - قال : قال أحمد بن الفرج : كنت أتولى شيئا من أعمال السلطان فبينا أنا ذات يوم قاعد في مجلس إذا أنا بالناس قد أغلقوا أبواب دكاكينهم وأخذوا أسلحتهم فقلت : ما لي أرى الناس قد استعدوا للفتنة ؟ فقالوا : إن أحمد بن حنبل يحمل ليمتحن في القرآن ، فلبست ثيابي وأتيت حاجب الخليفة - وكان لي صادقا - فقلت : أريد أن تدخلني حتى أنظر كيف يناظر أحمد الخليفة ، فقال : أتطيب نفسك بذلك ؟ فقلت : نعم ، فجمع جماعة وأشهدهم علي ، وتبرأ من إثمي ، ثم قال لي : امض ، فإذا كان يوم الدخول بعثت إليك ، فلما أن كان اليوم الذي أدخل فيه أحمد على الخليفة أتاني رسوله فقال : البس ثيابك واستعد للدخول ، فلبست قباء فوقه قفطان وتمنطقت بمنطقة ، وتقلدت سيفا ، وأتيت الحاجب فأخذ بيدي وأدخلني إلى الفوج الأول مما يلي أمير المؤمنين ، وإذا أنا بابن الزيات ، وإذا بكرسي من ذهب مرصع بالجوهر ، قد غشي أعلاه بالديباج ، فخرج الخليفة فقعد عليه ، ثم قال : أين هذا الذي يزعم أن الله عز وجل يتكلم بجارحتين ؟ علي به ، فأدخل أحمد وعليه قميص هروي وطيلسان أزرق ، وقد وضع يدا على يد وهو يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، حتى وقف بين يدي الخليفة ، فقال : أنت أحمد بن حنبل ؟ فقال : أنا أحمد بن محمد بن حنبل ، فقال : أنت الذي بلغني عنك أنك تقول : القرآن [ ص: 205 ] كلام الله غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود ، من أين قلت هذا ؟ قال أحمد : من كتاب الله تعالى وخبر نبيه صلى الله عليه وسلم ، قال : وما قال النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : حدثني عبد الرزاق عن معمر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله كلم موسى بمائة ألف كلمة ، وعشرين ألف كلمة ، وثلاثمائة كلمة وثلاث عشرة كلمة ، فكان الكلام من الله والاستماع من موسى ، فقال موسى : أي رب ، أنت الذي تكلمني أم غيرك ؟ قال الله تعالى : " يا موسى ، أنا أكلمك ، لا رسول بيني وبينك " ، قال : كذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أحمد : فإن يك هذا كذبا مني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال الله تعالى : ( ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) فإن يكن القول من غير الله فهو مخلوق ، وإن كان مخلوقا فقد ادعى حركة لا يطيق فعلها ، فالتفت إلى أحمد وابن الزيات فقال : ناظروه ، قالوا : يا أمير المؤمنين اقتله ودمه في أعناقنا ، قال : فرفع يده فلطم حر وجهه فخر مغشيا عليه فتفرق وجوه قواد خراسان ، وكان أبوه من أبناء قواد خراسان ، فخاف الخليفة على نفسه منهم فدعا بكوز من ماء فجعل يرش على وجهه ، فلما أفاق رفع رأسه إلى عمه وهو واقف بين يدي الخليفة فقال : يا عم ، لعل هذا الماء الذي صب على وجهي غضب صاحبه عليه ، فقال الخليفة : ويحكم ، ما ترون ما يهجم علي من هذا الحديث ، وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا رفعت عنه السوط حتى يقول : القرآن مخلوق ، ثم دعا بجلاد يقال له أبو الدن فقال : في كم تقتله ؟ قال : في خمسة أو عشرة أو خمسة عشر أو عشرين ، فقال : اقتله ، فكلما أسرعت كان أخفى للأمر ، ثم قال : جردوه ، قال : فنزعت ثيابه ، ووقف بين العقابين وتقدم أبو الدن - قطع الله يده - فضربه بضعة عشر سوطا فأقبل الدم من أكتافه إلى الأرض ، وكان أحمد ضعيف الجسم ، فقال إسحاق بن إبراهيم : يا أمير المؤمنين إنه إنسان ضعيف الجسم ، فقال : قد سمعت قولي : وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا رفعت السوط عنه حتى يقول كما أقول ، فقال : يا أبا عبد الله البشرى ، إن أمير المؤمنين قد تاب عن مقالته ، وهو يقول : لا إله [ ص: 206 ] إلا الله ، فقال أحمد : كلمة الإخلاص ، وأنا أقول : لا إله إلا الله ، فقال : يا أمير المؤمنين إنه قد قال كما تقول ، فقال : خل سبيله ، وارتفعت بالباب ، فقال : اخرج فانظر ما هذه الضجة ؟ فخرج ثم دخل ، فقال : يا أمير المؤمنين إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فأخرج أحمد بن حنبل إني لك من الناصحين ، فأخرج وقد وضع طيلسانه وقميصه على يده وكنت أول من وافى الباب ، فقال الناس : ما قلت يا أبا عبد الله حتى نقول ؟ قال : وما عسى أن أقول ، اكتبوا يا أصحاب الأخبار واشهدوا يا معشر العامة أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، منه بدأ وإليه يعود .

قال أحمد بن الفرج : وكنت أنظر إلى أحمد بن حنبل والسوط قد أخذ كتفيه وعليه سراويل فيه خيط فانقطع الخيط ونزل السراويل ، فلحظته وقد حرك شفتيه فعاد السراويل كما كان ، فسألته عن ذلك ، فقال : نعم ، إنه لما انقطع الخيط قلت : اللهم إلهي وسيدي واقفتني هذا الموقف فلا تهتكني على رءوس الخلائق ، فعاد السراويل كما كان " .

قال الشيخ أبو نعيم رحمه الله :

وهم أحمد بن الفرج في حفظ إسناد هذا الحديث حين ذكره عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ، وإنما يحفظ بعض هذا الحديث من حديث الضحاك عن ابن عباس .

التالي السابق


الخدمات العلمية