صفحة جزء
457 - أحمد بن عاصم الأنطاكي

ومنهم القاصم الهاشم ، اللائم الناقم الأنطاكي أحمد بن عاصم رحمه الله ، كان للهوى قاصما ، ولشرور النفس هاشما ، يديم القيام وينقم على اللوام .

حدثنا أبي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ، ثنا أحمد بن عبد العزيز بن محمد الدمشقي ، عن أحمد بن عاصم الأنطاكي ، قال : " كل نفس مسئولة فمرتهنة أو مخلصة ، وفكاك الرهون بعد قضاء الديون ، فإذا أغلقت الرهون أكدت الديون ، وإذا أكدت الديون استوجبوا السجون " .

حدثنا أبي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ، أخبرني عبد العزيز بن محمد ، عن أحمد بن عاصم ، قال : " ارجع إلى الاستعانة بالله على شرور هذه الأنفس ومخالفة هذه الأهواء ومجاهدة هذا العدو ، واشتغل به مضطرا إليه ، خائفا من عقابه راجيا لثوابه ، واعلم أن بينك وبين درجة الصدق أن تنالها عقبة الكذب أن تقطعها ، فاستعن على قطعها بالخوف الحاجز ، وبصدق المناجاة للاضطرار بقلب موجع ، مع ذلك يصفو القلب ويكثر تيقظه وتتسور عليه طوارق الأحزان ، وتقل فيه الغفلة ، والعين الذي يتفجر منه الخوف والشكر ومخرج الشكر من اليقين عزيز غير موجود " .

حدثنا أبي ، وعبد الله بن محمد ، ومحمد ، قالوا : أخبرنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ، قال : قرأت على عبد العزيز بن محمد الدمشقي ، عن أحمد بن عاصم الأنطاكي ، قال : " تلذذت الجوارح بذكرها ، وهشت الأبدان لاستماعها ووضحت العقول حقائقها ، وهان على المسامع وعيها ، مستأنسة إليها أرواح الموقنين ، [ ص: 281 ] مطمئنة إليها أنفس المتقين ، والهة عليها أبصار المتفكرين ، قنعة بها قلوب المستبصرين ، متناهية إليها أوهام المتوهمين ساكنة إليها فكر الناظرين ، مستبشرة بها إخلاص الصديقين ، كلمة خف على القلوب محملها ، ولان على الجوارح ملفظها ، وسلس على الألسن تردادها ، وعذب على اللهوات مقالتها ، وبرد على الأكباد لذاذتها " .

حدثنا أبي ، وأبو محمد بن حيان ، وأبو بكر ، قالوا : ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ، قال : قرأت على عبد العزيز بن محمد بن المختار الدمشقي ، عن أحمد بن عاصم ، أنه قال : " احذر هذا الوعيد ، وخذ في المحاسبة ، واعقل درجتك ، ولا تزهو عند الخلائق بكثرة تقياتك ، وجوهرك جوهر الفضائح ، وسيماك سيما الأبرار ، واستح من الله عز وجل في تضييعك من قبل أن لا تستحييك الخزنة من المبالغة في عذابك ، فإن خزنة جهنم تغضب لله عز وجل عليك ما لا تغضب أنت لله على نفسك في معصيتك إياه ، فاستح من قبولك من نفسك دعواها الصدق وقد افتضحت عندك وبان جوهرها من خالص ضميرها بإيثارها محجة الكذب على محجة الصدق ، وليصح عداوتك إياها ، وليكن لك في الحق حظ ونصيب كامل بإقرارك لله عليها بكذبها وكن سخين العين على ما ظهر لك منها ، ولتكن عندك في عداد المستدرجين وأجرها في ميزان الكذابين ، فإنه حكي عن عزير أنه قال : إله البرية ، إني لأعد نفسي مع أنفس الكذابين الظالمين وروحي مع أرواح الهلكى وبدني مع أبدان المعذبين " .

حدثنا إسحاق بن أحمد بن علي ، ثنا إبراهيم بن يوسف ، ثنا أحمد بن أبي الحواري ، ثنا أحمد بن عاصم أبو عبد الله الأنطاكي ، قال : " إذا صارت المعاملة إلى القلب استراحت الجوارح " .

حدثنا إسحاق بن أحمد ، ثنا إبراهيم بن يوسف ، ثنا أحمد بن أبي الحواري ، ثنا أحمد بن عاصم ، قال : " هذه غنيمة باردة ، أصلح فيما بقي يغفر لك فيما مضى " .

حدثنا إسحاق ، ثنا إبراهيم ، ثنا أحمد ، ثنا أحمد بن عاصم ، قال : قال فضيل [ ص: 282 ] بن عياض لابنه علي : " يا بني لعلك ترى أنك مطيع لصرصر من صراصر الحش أطوع لله منك " - يعني بالصرصر : الذي يصيح بالليل .

حدثنا إسحاق ، ثنا إبراهيم ، ثنا أحمد ، قال : سمعت أبا عبد الله الأنطاكي ، يقول : " ما أغبط أحدا إلا من عرف مولاه ، وأشتهي أن لا أموت حتى أعرفه معرفة العارفين الذين يستحيونه ، لا معرفة التصديق " .

حدثنا أبي ، وأبو محمد بن حيان ، قالا : ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسين ، ثنا موسى بن عمران بن موسى الطرسوسي ، ثنا أحمد بن أبي الحواري ، قال : سمعت أحمد بن عاصم ، يقول : " أحب أن لا أموت حتى أعرف مولاي " ، وقال لي : " يا أبا أحمد : ليس المعرفة الإقرار به ولكن المعرفة التي إذا عرفت استحييت " .

حدثنا أبي ، وأبو محمد قالا : ثنا إبراهيم ، ثنا عمران بن موسى ، ثنا أحمد بن أبي الحواري ، قال : سمعت أحمد بن عاصم ، يقول : " الخير كله في حرفين ، قلت : وما هما ؟ قال : تزوى عنك الدنيا ويمن عليك بالقنوع ، ويصرف عنك وجوه الناس ويمن عليك بالرضى " .

حدثنا إسحاق بن أحمد ، ثنا إبراهيم بن يوسف ، ثنا أحمد بن أبي الحواري ، قال : سمعت أبا عبد الله الأنطاكي ، يقول : " ليس شيء خيرا من أن لا تمتحن بالدنيا - أي : لا تتعرض لها " - .

سمعت أبي يقول : سمعت خالي عثمان بن محمد بن يوسف يقول : سمعت أبي يقول : قال أحمد بن عاصم الأنطاكي : " أنفع اليقين ما عظم في عينك ما به قد أيقنت ، وصغر في عينك ما دون ذلك ، وأثبت الخوف ما حجزك عن المعاصي ، وأطال منك الحزن على ما قد فات وألزمك الفكر في بقية عمرك وخاتمة أمرك ، وأنفع الرجاء ما سهل عليك العمل لإدراك ما ترجو ، وألزم الحق إنصافك الناس من نفسك ، وقبولك الحق ممن هو دونك ، وأنفع الصدق أن تقر لله بعيوب نفسك ، وأنفع الإخلاص ما نفى عنك الرياء والتزين ، وأنفع الحياء أن تستحي أن تسأله ما تحب وتأتي ما يكره ، وأنفع الشكر أن تعرف منه ما ستر عليك من مساويك فلم يطلع أحدا من المخلوقين عليك " .

[ ص: 283 ] سمعت أبي يقول : سمعت عثمان بن محمد بن يوسف ، يقول : سمعت أبي يقول : قال أحمد بن عاصم الأنطاكي : " أنفع الصدق ما نفى عنك الكذب في مواطن الصدق ، وأنفع التوكل ما وثقت بضمانه وأحسنت طلبته ، وأنفع الغنى ما نفى عنك الفقر وخوف الفقر ، وأنفع الفقر ما كنت فيه متجملا وبه راضيا ، وأنفع الحزم ما طرحت به التسويف للعمل عند إمكان الفرصة وانتهاز البغية في أيام المهلة ، وعند غفلة أهل الغرة ، وأنفع الصبر ما قواك على خلاف هواك ولم يجد الجزع فيك مساغا ، وأنفع الأعمال ما سلمت من آفاتها وكانت منك مقبولة ، وأنفع الأناة والتؤدة حسن التدبير والفكر والنظر أمام العمل فإنهما يفيدان المعرفة بثواب العمل ، فيحتمل للثواب مؤنة العمل ويغبط يوم المجازاة ، وأنفع العمل ما ضر جهله وازداد بمعرفته وجعا وكنت به عاملا ، وأنفع التواضع ما أذهب عنك الكبر وأمات عنك الغضب ، وأنفع الكلام ما وافق الحق ، وأنفع الصمت ما صمت عما إذا نطقت به عظمت فعشت ، وأضر الكلام ما كان الصمت خيرا لك منه ، وألزم الحق أن تلزم نفسك بأداء ما ألزمها الله تعالى من حقه وإن كان في ذلك خلاف هواك ، وتلزم والديك وولدك ثم الأقرب فالأقرب فألزمهم من الحق ، وإن كان في ذلك خلاف هواك وخلاف أهوائهم ، وأنفع العلم ما رد عنك الجهل والسفه ، وأنفع الإياس ما أمات منك الطمع من المخلوقين ، فإنه مفتاح الذل واختلاس العقل وأخلاق المروءات ، وتدنيس العرض وذهاب العلم ، وردك إلى الاعتصام بربك والتوكل عليه .

وأفضل الجهاد مجاهدتك نفسك فتردها إلى قبول الحق ، وأوجب الأعداء مجاهدة أقربهم منك دنوا وأخفاهم عنك شخصا وأعظمهم لك عداوة مع دنوه منك ، ومن يحرض جميع أعدائك عليك ، وهو إبليس الموكل بوسواس القلوب ، فله فلتشتد عداوتك ولا تكونن أصبر على مجاهدتك لهلكتك منك على صبرك على مجاهدته ليخافك ، فإنه أضعف منك ركنا في قوته وأقل ضررا في كثرة شره إذا أنت اعتصمت بالله ، وأضر المعاصي عليك إعمالك الطاعات بالجهل ؛ لأن إعمالك المعاصي لا ترجو لها ثوابا بل تخاف عليها عقابا [ ص: 284 ] ، وإعمالك الطاعات بالجهل فاسدة تلتمس لها ، وقد استوجبت لها عقابا ، فكم بين ذنب يخاف فيه العقوبة ، والخوف طاعة ، وبين ذنب أنت فيه آمن من العقوبة ؟ والأمن من معصية .

قلت : فما تقول في المشاورة ؟ قال : لا تثقن فيها بغير الأمين ، قلت : فما تقول في المشورة ؟ قال : انظر فيها لنفسك بدءا كيف تسلم من كلامك ، فإذا كنت كذلك ألهمت رشدك فتتقي وتوثق ، قلت : فما ترى في الأنس بالناس ؟ قال : إن وجدت عاقلا مأمونا فأنس به واهرب من سائرهم كهربك من السباع ، قلت : فما أفضل ما أتقرب به إلى الله عز وجل ؟ قال : ترك معاصيه الباطنة ، قلت : فما بال الباطنة أولى من الظاهرة ؟ قال : لأنك إذا اجتنبت الباطنة بطلت الظاهرة والباطنة ، قلت : فما أضر المعاصي ؟ قال : ما لا تعلم أنها معصية ، وأضر منها ما ظننت أنها طاعة وهي لله معصية ، قلت : فأي المعاصي أنفع لي ؟ قال : ما جعلتها نصب عينيك فأطلت البكاء عليها إلى مفارقتك الدنيا ، ثم لم تعد في مثلها وذلك التوبة النصوح ، قلت : فما أضر الطاعات لي ؟ قال : ما نسيت بها مساويك وجعلتها نصب عينيك إدلالا بها ، وأمنا واغترارا منك من خوف ما قد جنيت وذلك للعجب ، قلت : فأي المواضع أخفى لشخصي ؟ قال : صومعتك وداخل بيتك ، قلت : فإن لم أسلم في بيتي ؟ قال : ففي المواضع التي لم تلحق بك فيها شهوة وتحط بك فتنة ، قلت : فما أنفع لطف الله لي ؟ قال : إذا عصمك من معاصيه ووفقك لطاعته ، قلت : هذا مجمل أعطني تفسيرا أوضح منه ، قال : نعم إذا أعانك بثلاث : عقل يكفيك مؤنة هواك ، وعلم يكفيك جهلك ، وغنى يذهب عنك خوف الفقر " .

حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ، قال : قرأت على عبد العزيز بن محمد ، قال : سمعت الأنطاكي ، يقول : " أما بعد ، فإن أهل الطاعة قد قدموا بين يدي الأعمال لطيف المعرفة بالأسباب التي يستديمون بها صالح الأعمال ويسهل عليهم مأخذه ، وصيروا أعمالهم في الدنيا يوما واحدا وليلة واحدة ، كلما مضت استأنفوا النية وطلبوا من أنفسهم حسن الصحبة ليومهم [ ص: 285 ] وليلتهم ، فكلما مضى عنهم يوم وليلة راقبوا أنفسهم فيها على جميل الطاعة كان عندهم غنما ، وذكروا اليوم الماضي فسروا به وصبروا أنفسهم فيها على المستقبل لانقضاء الأجل فيه أو في ليلته فأطرحوا شغل القلب بانقضاء تذكر غد ، وأعملوا أبدانهم وجوارحهم وفرغوا له قلوبهم فقصرت عندهم الآمال ، وقربت منهم الآجال وتباعدت أسباب وساوس الدنيا من قلوبهم ، وعظم شغل الآخرة في صدورهم ، ونظروا إلى الآخرة بعين بصيرة ، وتقربوا إلى الله عز وجل بأعمال زاكية ، واستقامت لهم السيرة حتى وجدوا حلاوة الطاعة في الدنيا حين ساعدتهم الزيادة في التقوى فقرت بالخوف أعينهم ، وتنعموا بالحزن في عبادتهم حتى نحلت أجسامهم وبليت أجسادهم ويبست على عظامهم جلودهم ، وقل مع المخلوقين كلامهم ، وتلذذوا بمناجاة خالقهم ، فقلوبهم بملكوت السماوات متعلقة ، وذكرهم بأهوال القيامة مقبلة مدبرة ، أبدانهم بين المخلوقين عارية فعموا عن الدنيا وصموا عنها وعن أهلها وما فيها ، وضح لهم أمر الآخرة حتى كأنهم ينظرون إليها ، فتخلص إلى ذلك قوم من طريق الاجتهاد ، لتذل لهم الأنفس وتخضع لهم الجوارح ، فاجتهد قوم في الصلاة لدوام الخشوع عليهم ، واجتهد قوم في الصوم لهدو الجوارح عنهم ، واجتهد قوم في ترك الشهوات وطلب الفوز وذلك من رياضة الأنفس حتى أفضوا بالأنفس إلى الجوع ونحول الجسم " .

حدثنا أبي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ، قال : قرأت على عبد العزيز بن محمد ، عن أبي عبد الله الأنطاكي ، قال : " إن الحكماء نظروا إلى الدنيا بعين القلى إذ صح عندهم أن شهوات الدنيا تفسد عليهم حكمتهم ، ونظروا إلى الآخرة بأعين قلوبهم فصيروا الدنيا عندهم معبرا يجوزون عليها لا حاجة لهم في الإقامة فيها ، والآخرة منزلا لا يريدون بها بدلا ولا عنها حولا ، فسرحت أحوالهم في ملكوت السماء واتخذوا للمكروه في جنب الله تعالى جنة ، همومهم في قلوبهم وقلوبهم عند ربهم ، نظروا بأعين القلوب واستربحوا دلالات العقول على جلب الهدى ، نظروا بأعين قلوبهم إلى الآخرة [ ص: 286 ] فأيقنوا واستبصروا ، ونظروا بأعين الوجوه إلى الدنيا فاعتبروا وانزجروا فاستصغروا ما أحاطت به أعين الوجوه من الدنيا واستعظموا ما أحاطت به عين القلوب من ملك الآخرة " .

التالي السابق


الخدمات العلمية