صفحة جزء
455 منصور بن عمار

قال الشيخ أبو نعيم رحمه الله تعالى : ومنهم منصور بن عمار رحمه الله تعالى كان لآلاء الله واصفا ، وعلى بابه عاكفا ، يحوش العباد إليه ويلح في المسألة عليه .

حدثنا إسحاق بن أحمد بن علي ، ثنا إبراهيم بن يوسف بن خالد ، ثنا أحمد بن أبي الحواري ، قال : سمعت عبد الرحمن بن المطوف يقول : " رئي منصور بن عمار بعد موته فقيل له : يا منصور ما فعل بك ربك . قال : غفر لي [ ص: 326 ] وقال لي : يا منصور قد غفرت لك على تخليط منك كثير ، إلا أنك كنت تحوش الناس إلى ذكري " .

حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا مسلم بن عصام ، ثنا عبد الرحمن بن عمر رسته ، ثنا يوسف بن عبد الله الحراني ، عن منصور بن عمار ، قال : " كتب إلي بشر المريسي أعلمني ما قولكم في القرآن مخلوق هو أو غير مخلوق ؟ فكتبت إليه : بسم الله الرحمن الرحيم . أما بعد ، عافانا الله وإياك من كل فتنة ، فإن يفعل فأعظم بها نعمة ، وإن لم يفعل فهو الهلكة ، كتبت إلي أن أعلمك ؛ القرآن مخلوق أو غير مخلوق ، فاعلم أن الكلام في القرآن بدعة ، يشترك فيها السائل والمجيب ، فتعاطى السائل ما ليس له بتكلف والمجيب ما ليس عليه ، والله تعالى الخالق وما دون الله مخلوق ، والقرآن كلام الله غير مخلوق فانته بنفسك وبالمختلفين في القرآن إلى أسمائه التي سماه الله بها تكن من المهتدين ، ولا تبتدع في القرآن من قلبك اسما فتكون من الضالين ، وذر الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون ، جعلنا الله وإياكم ممن يخشونه بالغيب وهم من الساعة مشفقون " .

حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا عبد الله بن محمد بن الحجاج ، ثنا محمد بن علي بن خلف ، ثنا زهير بن عباد ، ثنا منصور بن عمار ، قال : " قال سليمان بن داود : إن الغالب لهواه أشد من الذي يفتح المدينة وحده " .

حدثنا عثمان بن محمد العثماني ، ثنا أبو الحسن البغدادي ، عن بعض إخوانه ، قال : قال سليمان بن منصور : " كنت في مجلس أبي منصور فوقعت رقعة في المجلس ، فإذا فيها بسم الله الرحمن الرحيم ، يا أبا السري ، أنا رجل من إخوانك تبت على يديك وأنا اشتريت من الله عز وجل حورا على صداق ثلاثين ختمة ، فختمت منها تسعا وعشرين ، فأنا في الثلاثين إذ حملتني عيناي فرأيت كأن حوراء خرجت علي من المحراب ، فلما رأتني أنظر إليها أنشأت تقول برخيم صوتها :


أتخطب مثلي وعني تنام ونوم المحبين عني حرام     لأنا خلقنا لكل امرئ
كثير الصلاة براه الصيام



[ ص: 327 ] فانتبهت وأنا مذعور .

حدثنا عثمان بن محمد العثماني ، ثنا أبو القاسم بن الأسود ، ثنا أبو علي بن دسيم الزقاق ، قال : سمعت عبدك العابد ، يقول : قيل لمنصور بن عمار : تكلم بهذا الكلام ونرى منك أشياء . فقال : " احسبوني ذرة وجدتموها على كناسة مكانها " .

حدثنا عبد الله بن محمد ، قال : سمعت محمد بن عبد الرحيم بن شبيب ، يقول : سمعت سليم بن منصور بن عمار ، سمعت أبي يقول : دخلت على سفيان بن عيينة فحدثني ووعظته ، فلما أثارت الأحزان دموعه رفع رأسه إلى السماء فرددها في عينيه : فأنشأت أقول : رحمك الله يا أبا محمد هلا أسبلتها إسبالا ؟! وتركتها تجري على خديك سجالا ؟! فقال لي : " يا منصور إن الدمعة إذا بقيت في الجفون كان أبقى للحزن في الجوف ، لقد رأى سفيان أن يعمر قلبه بالأحزان ، وأن يجعل أيام الحياة عليه أشجانا ، ولولا ذلك لاستراح إلى إسبال الدموع ومشاركة ما أرى من الجوع " .

سمعت الحسين بن عبد الله النيسابوري ، يقول : سمعت محمد بن الحسين بن موسى ، يقول : قال منصور بن عمار : " قلوب العباد كلها روحانية ، فإذا دخلها الشك والخبث امتنع منها روحها " .

وقال : " إن الحكمة تنطق في قلوب العارفين بلسان التصديق ، وفي قلوب الزاهدين بلسان التفضيل ، وفي قلوب العباد بلسان التوفيق ، وفي قلوب المريدين بلسان التفكير ، وفي قلوب العلماء بلسان التذكير ، ومن جزع من مصائب الدنيا تحولت مصيبته في دينه " .

وقال : " سبحان من جعل قلوب العارفين أوعية الذكر ، وقلوب أهل الدنيا أوعية الطمع ، وقلوب الزاهدين أوعية التوكل ، وقلوب الفقراء أوعية القناعة ، وقلوب المتوكلين أوعية الرضا " .

وقال : " أحسن لباس العبد التواضع والانكسار ، وأحسن لباس العارفين التقوى . قال الله تعالى : ( ولباس التقوى ذلك خير ) " .

وقال منصور : " سلامة النفس في مخالفاتها ، وبلاؤها في متابعاتها .

حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن إسحاق ، ثنا محمد بن إسحاق السراج ، قال : [ ص: 328 ] سمعت أحمد بن موسى الأنصاري ، يقول : قال منصور بن عمار : " حججت حجة فنزلت سكة من سكك الكوفة ، فخرجت في ليلة مظلمة طخيا مسحنككة فإذا بصارخ يصرخ في جوف الليل ، وهو يقول : إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ، وقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بنكالك جاهل ، ولكن خطيئة عرضت وأعانني عليها شقائي ، وغرني سترك المرخى علي ، وقد عصيتك بجهدي وخالفتك بجهلي ، فالآن عن عذابك من يستنقذني ؟ وبحبل من أتصل إن أنت قطعت حبلك ، واشباباه ، واشباباه !! قال : فلما فرغ من قوله تلوت آية من كتاب الله تعالى : ( نارا وقودها الناس والحجارة ) الآية .

فسمعت دكدكة لم أسمع بعدها حسا ، فمضيت فلما كان من الغد رجعت في مدرجتي فإذا أنا بجنازة ، قد أخرجت وإذا أنا بعجوز قد ذهب متنها - يعني قوتها - فسألتها عن أمر الميت - ولم تكن عرفتني - فقالت : هذا رجل لا جزاه إلا جزاءه مر بابني البارحة وهو قائم يصلي ، فتلا آية من كتاب الله تعالى ؛ فتفطرت مرارته فوقع ميتا رحمه الله تعالى " . حدث به إبراهيم بن أبي طالب النيسابوري ، عن ابن أبي الدنيا ، عن محمد بن إسحاق السراج .

وحدثنا أبي ، ثنا خالي أحمد بن محمد بن يوسف ، حدثني أبي قال : أخبرت عن منصور بن عمار ، أنه قال : " خرجت ليلة من الليالي وظننت أن النهار قد أضاء فإذا الصبح علا ، فقعدت إلى دهليز يشرف ، فإذا أنا بصوت شاب يدعو ويبكي ، وهو يقول : اللهم وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك ، ولكن عصيتك إذ عصيتك بجهلي ، وما أنا بنكالك جاهل ، ولا لعقوبتك متعرض ، ولا بنظرك مستخف ، ولكن سولت لي نفسي وأعانني عليها شقوتي ، وغرني سترك المرخى علي ، فقد عصيتك وخالفتك بجهلي ، فمن عذابك من يستنقذني ، ومن أيدي زبانيتك من يخلصني ، وبحبل من أتصل إن أنت قطعت حبلك عني ، واسوءتاه إذا قيل للمخفين جوزوا ، وقيل للمثقلين حطوا ، فيا ليت شعري مع المثقلين أحط أم مع المخفين أجوز ، ويحي كلما طال عمري كثرت ذنوبي ، ويحي كلما كبر سني كثرت خطاياي ، فيا ويلي كم أتوب ، وكم أعود ولا أستحي من ربي .

قال منصور : فلما سمعت كلام الشاب وضعت [ ص: 329 ] فمي على باب داره ، وقلت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم : إن الله هو السميع العليم : ( نارا وقودها الناس والحجارة ) الآية . قال منصور : ثم سمعت للصوت اضطرابا شديدا وسكن الصوت . فقلت : إن هناك بلية ، فعلمت على الباب علامة ومضيت لحاجتي ، فلما رجعت من الغداة إذ أنا بجنازة منصوبة ، وعجوز تدخل وتخرج باكية ، فقلت لها : يا أمة الله من هذا الميت منك ؟ قالت : إليك عني ، لا تجدد علي أحزاني ، قلت : إني رجل غريب أخبريني . قالت : والله لولا أنك غريب ما خبرتك ، هذا ولدي من موالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا جن عليه الليل قام في محرابه يبكي على ذنوبه ، وكان يعمل هذا الخوص فيقسم كسبه ثلاثا ؛ فثلث يطعمني وثلث للمساكين وثلث يفطر عليه ، فمر علينا البارحة رجل لا جزاه الله خيرا فقرأ عند ولدي آيات فيها النار فلم يزل يضطرب ويبكي حتى مات رحمه الله . قال منصور : فهذه صفة الخائفين إذا خافوا السطوة " .

التالي السابق


الخدمات العلمية