صفحة جزء
حدثنا عثمان بن محمد العثماني ، ثنا أحمد بن محمد أبو الحسن الأنصاري ، قال : سمعت يوسف بن الحسن ، يقول : قال ذو النون المصري يوما وأتاه رجل فقال له : أوصني فقال : " بم أوصيك ؟ إن كنت ممن قد أيد منه في علم الغيب بصدق التوحيد فقد سبق لك قبل أن تخلق إلى يومنا هذا دعاء النبيين والمرسلين والصديقين وذلك خير لك من وصيتي لك ، وإن يكن غير ذلك فلن ينفعك النداء " .

حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا أبو بكر الدينوري ، ثنا محمد بن أحمد الشمشاطي ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : " بينا أنا سائر على شاطئ نيل مصر إذا أنا بجارية ، عليها دباء شعث الكلال ، وإذا القلب منها متعلق بحب الجبار ، وهي منقطعة في نيل مصر وهو يضطرب بأمواجه ، فبينا هي كذلك إذ نظرت إلى حوت ينساب بين الوجبتين فرمت بطرفها إلى السماء وبكت ، وأنشأت تقول : لك تفرد المتفردون في الخلوات ، ولعظيم رجاء ما عندك سبح الحيتان في البحور الزاخرات ، ولجلال هيبتك تصافقت الأمواج في البحور المستفحلات ، ولمؤانستك استأنست [ ص: 355 ] بك الوحوش في الفلوات ، وبجودك وكرمك قصد إليك يا صاحب البر والمسامحات ، ثم ولت عني ، وهي تقول :


يا مؤنس الأبرار في خلواتهم يا خير من حطت به النزال     من نال حبك لا ينال تفجعا
القلب يعلم أن ما يفنى محال



ثم غابت عني فلم أرها ، فانصرفت وأنا حزين القلب ، ضعيف الرأي " .

حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا أبو بكر ، ثنا محمد بن أحمد ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : بينا أنا سائر ، بين جبال الشام ، إذا أنا بشيخ على تلعة من الأرض قد تساقطت حاجباه على عينيه كبرا ، فتقدمت إليه فسلمت عليه فرد علي السلام ، ثم أنشأ وهو يقول بصوت عليل : " يا من دعاه المذنبون فوجدوه قريبا ، ويا من قصد إليه الزاهدون فوجدوه حبيبا ، ويا من استأنس به المجتهدون فوجدوه سريعا مجيبا ، ثم أنشأ يقول :


وله خصائص مصطفين لحبه     اختارهم في سالف الأزمان
اختارهم من قبل فطرة خلقه     فهم ودائع حكمة وبيان



ثم صرخ صرخة فإذا هو ميت " .

حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا أبو بكر بن محمد ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : " إن لله عبادا فتقوا الحجب ، وعلوا النجب ، حتى كشف لهم الحجب فسمعوا كلام الرب " .

قال : وسمعت ذا النون ، يقول : " إن لله عبادا على الأرائك يسمعون كلام الله إذا كلم المحبين في المشهد الأعلى ; لأنهم عبدوه سرا ، فأوصل إلى قلوبهم طرائف البر ، عملوا ببعض ما علموا فلما وقفوا في الظلام بين يديه هدى قلوبهم إلى ما يعلمون فحسرت ألبابهم لمعرفة الوقوف بين يديه " .

حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن عبيد الله ، ثنا أحمد بن عيسى الوشاء ، قال : سمعت سعيد بن الحكم ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " لكل قوم عقوبة وعقوبة العارف انقطاعه من ذكر الله " .

حدثنا محمد بن أحمد ، قال : سمعت أحمد بن عيسى ، يقول : سمعت أبا عثمان سعيد بن الحكم يقول : سئل ذو النون : " من أدوم الناس عناء ؟ قال : أسوءهم [ ص: 356 ] خلقا ، قيل : وما علامة سوء الخلق ، قال : كثرة الخلاف .

قال : وسمعت ذا النون يقول : سئل جعفر بن محمد ، عن السفلة ، فقال : " من لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه " .

حدثنا محمد بن محمد ، ثنا أحمد بن عيسى ، ثنا سعيد بن الحكم ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : دخلت على متعبدة ، فقلت لها : كيف أصبحت ؟ قالت : " أصبحت من الدنيا على فناء ، مبادرة للجهاز ، متأهبة لهول يوم الجواز ، أعترف لله على ما أنعم بتقصيري عن شكرها ، وأقر بضعفي عن إحصائها وشكرها ، قد غفلت القلوب عنه وهو منشئها ، وأدبرت عنه النفوس وهو يناديها ، فسبحانه ما أمهله للأنام مع تواتر الأيادي والإنعام ؟! " .

قال : وسمعت ذا النون ، يقول : " بينا أنا أسير في بلاد الشام إذا أنا بعابد خرج من بعض الكهوف ، فلما نظر إلي استتر بين تلك الأشجار ثم قال : أعوذ بك سيدي ممن يشغلني عنك يا مأوى العارفين وحبيب التوابين ومعين الصادقين . وغاية أمل المحبين . ثم صاح : واغماه من طول البكاء ، واكرباه من طول المكث في الدنيا ، ثم قال : سبحان من أذاق قلوب العارفين به حلاوة الانقطاع إليه فلا شيء ألذ عندهم من ذكره والخلوة بمناجاته ، ثم مضى وهو يقول : قدوس قدوس قدوس . فناديته : أيها العابد قف لي ، فوقف لي وهو يقول : اقطع عن قلبي كل علاقة ، واجعل شغله بك دون خلقك ، فسلمت عليه ثم سألته أن يدعو الله لي ، فقال : خفف الله عنك مؤن نصب السير إليه ، ودلك على رضاه حتى لا يكون بينك وبينه علاقة ، ثم سعى من بين يدي كالهارب من السبع " .

حدثنا عثمان بن محمد العثماني ، ثنا محمد بن أحمد المذكر ، عن بعض أصحابه ، قال : قال ذو النون لفتى من النساك : يا فتى ، خذ لنفسك بسلاح الملامة ، واقمعها برد الظلامة ، تلبس غدا سرابيل السلامة ، واقصرها في روضة الأمان ، وذوقها مضض فرائض الإيمان ، تظفر بنعيم الجنان ، وجرعها كأس الصبر ، ووطنها على الفقر حتى تكون تام الأمر . فقال له الفتى : وأي نفس تقوى على هذا ؟ فقال : نفس على الجوع صبرت ، وفي سربال الظلام خطرت ، نفس [ ص: 357 ] ابتاعت الآخرة بالدنيا بلا شرط ولا ثنيا ، نفس تدرعت رهبانية القلق ، ورعت الدجى إلى واضح الفلق ، فما ظنك بنفس في وادي الحنادس سلكت وهجرت اللذات فملكت ، وإلى الآخرة نظرت ، وإلى العيناء أبصرت وعن الذنوب أقصرت ، وعلى الذر من القوت اقتصرت ، ولجيوش الهوى قهرت ، وفي ظلم الدياجي سهرت ، فهي بقناع الشوق مختمرة ، وإلى عزيزها في ظلم الدجى مشتمرة ، قد نبذت المعايش ورعت الحشايش ، هذه نفس خدوم عملت ليوم القدوم ، وكل ذلك بتوفيق الحي القيوم .

حدثنا عثمان بن محمد ، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد البغدادي ، ثنا أبو جعفر محمد بن عبد الملك بن هاشم ، قال : قلت لذي النون : صف لنا من خيار من رأيت ، فذرفت عيناه وقال : " ركبنا مرة في البحر نريد جدة ومعنا فتى من أبناء نيف وعشرين سنة ، قد ألبس ثوبا من الهيبة ، فكنت أحب أن أكلمه فلم أستطع . بينما نراه قارئا ، وبينما نراه صائما ، وبينما نراه مسبحا ، إلى أن رقد ذات يوم ووقعت في المركب تهمة فجعل الناس يفتش بعضهم بعضا إلى أن بلغوا إلى الفتى النائم ، فقال صاحب الصرة : لم يكن أحد أقرب إلي من هذا الفتى النائم . فلما سمعت ذلك قمت فأيقظته فما كان حتى توضأ للصلاة وصلى أربع ركعات ، ثم قال : يا فتى ما تشاء ، فقلت : إن تهمة وقعت في المركب وإن الناس قد فتش بعضهم بعضا حتى بلغوا إليك . فالتفت إلى صاحب الصرة ، وقال : أكما يقول ؟ فقال : نعم ، لم يكن أحد أقرب إلي منك . فرفع الفتى يديه يدعو وخفت على أهل المركب من دعائه وخيل إلينا أن كل حوت في البحر قد خرج ، في فم كل حوت درة ، فقام الفتى إلى جوهرة في في حوت فأخذها فألقاها إلى صاحب الصرة ، وقال : في هذه عوض مما ذهب منك وأنت في حل " .

حدثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم ، ثنا أحمد بن محمد بن حمدان ، ثنا عبد القدوس بن عبد الرحمن الشاشي ، قال سمعت أبا الفيض ذا النون يقول : " إلهي من ذا الذي ذاق طعم حلاوة مناجاتك فألهاه شيء عن طاعتك ومرضاتك ؟ [ ص: 358 ] أم من ذا الذي ضمنت له النصر في دنياه وآخرته فاستنصر بمن هو مثله في عجزه وفاقته ؟ أم من ذا الذي تكفلت له بالرزق في سقمه وصحته فاسترزق غيرك بمعصيتك في طاعته ؟ أم من ذا الذي عرفته آثامه فلم يحتمل خوفا منك مئونة فطامه ؟ أم من ذا الذي أطلعته على ما لديك ثم انقطع إليك من كرامته فأعرض عنك صفحا إخلادا إلى الدعة في طلب راحته ؟ من ذا الذي عرف دنياه وآخرته فآثر الفاني على الباقي لحمقه وجهالته ؟ أم من ذا الذي شرب الصافي من كأس محبتك فلم يستبشر بقوارع محنتك ؟ أم من ذا الذي عرف حسن اختيارك لخلقك في قدرتك فلم يرض بذلك ؟ أم من ذا الذي عرف علمك بسره وعلانيته وقدرتك على نفعه وضره فلم يكتف بك عن علم غيرك به ولم يستغن بك عن قدرة عاجز مثله " .

حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان ، قال : سمعت ذا النون ، يدعو : " اللهم متع أبصارنا بالجولان في جلالك ، وسهرنا عما نامت عنه عيون الغافلين ، واجعل قلوبنا معقودة بسلاسل النور ، وعلقها بأطناب التفكر ، ونزه أبصارنا عن سر مواقف المتحيرين ، وأطلقنا من الأسر لنجول في خدمتك مع الجوالين ، اللهم اجعلنا من الذين استعملوا ذكر قطع اللذات ، وخالفوا متاع الغرة بواضحات المعرفة . اللهم اجعلنا من الذين لخدمتك في أقطار الأرض لهم طلابا ، ولخصائص أصفيائك أصحابا ، وللمريدين المعتكفين ببابك أحبابا . اللهم اجعلنا من الذين غسلوا أوعية الجهل بصفو ماء الحياة في مسالك النعيم ، حتى جالت في مجالس الذكر مع رطوبة ألسنة الذاكرين .

اللهم اجعلنا من الذين رتعوا في زهرة ربيع الفهم حتى تسامت أسنية الفكرة فوق سمو السمو حتى تسامى بهم نحو مسام العلويين براحات القلوب ، ومستنبطات عيون الغيوب بطول استغفار الوجوه في محاريب قدس رهبانية الخاشعين ، حتى لاذت أبصار القلوب بجواهر السماء ، وعبرت أفنية النواحين من مصاف الكروبين ومجالسة الروحانيين فتوهموا أن قد قرب احتراق بالقلوب عند إرسال الفكرة في مواقع الأحزان بين يديك [ ص: 359 ] ، فأحرقت نار الخشية بصائر مناقب الشهوات من قلوبهم ، وسكنت خوافي ضلوع مضايق الغفلات من صدورهم ، فأنبت ذكر الصلوات رقاد قلوبهم " .

حدثنا عثمان بن محمد العثماني ، قال : قرأ علي أبو الحسن أحمد بن محمد بن عيسى الرازي قال : سمعت يوسف بن الحسين ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " بالعقول يجتنى ثمر القلوب ، وبحسن الصوت تستمال أعنة الأبصار ، وبالتوفيق تنال الحظوة وبصحبة الصالحين تطيب الحياة ، والخير مجموع في القرين الصالح إن نسيت ذكرك ، وإن ذكرت أعانك " .

حدثنا عثمان بن محمد ، أخبرنا أحمد بن محمد ، قال : سمعت يوسف بن الحسين ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " حرم الله الزيادة في الدين ، والإلهام في القلب ، والفراسة في الخلق على ثلاثة نفر : على بخيل بدنياه ، وسخي بدينه ، وسيئ الخلق مع الله . فقال له رجل : بخيل بالدنيا عرفناه ، وسخي بدينه عرفناه ، صف لنا سيئ الخلق مع الله . قال : يقضي الله قضاء ويمضي قدرا وينفذ علما ويختار لخلقه أمرا ، فترى صاحب سوء الخلق مع الله مضطربا في ذلك كله غير راض به ، دائما شكواه من الله إلى خلقه فما ظنك " .

حدثنا عثمان بن محمد ، أخبرنا أحمد بن محمد ، قال : سمعت يوسف بن الحسين ، يقول : قلت لذي النون : " دلني على الطريق الذي يؤديني إليه من ذكره . فقال : من أنس بالخلوة فقد استمكن من بساط الفراغ ، ومن غيب عن ملاحظة نفسه فقد استمكن من مقاعد الإخلاص ، ومن كان حظه من الأشياء هواه لم يبال ما فاته ممن هو دونه ، ثم قال : المتضع يبدي غير الذي هو به ، والصادق لا يبالي على أي جنب وقع " .

قال : وسمعت ذا النون يقول : " العارف متلوث الظاهر صافي الباطن ، والزاهد صافي الظاهر متلوث الباطن " .

قال : وسمعت ذا النون ، يقول : " إن المؤمن إذا آمن بالله واستحكم إيمانه خاف الله ، فإذا خاف الله تولدت من الخوف هيبة الله ، فإذا سكن درجة الهيبة دامت طاعته لربه ، فإذا أطاع تولدت من الطاعة الرجاء فإذا سكن درجة الرجاء تولدت من الرجاء المحبة ، فإذا استحكمت معاني المحبة في قلبه سكن بعدها درجة الشوق ، فإذا [ ص: 360 ] اشتاق أداه الشوق إلى الأنس بالله ، فإذا أنس بالله اطمأن إلى الله ، فإذا اطمأن إلى الله كان ليله في نعيم ، ونهاره في نعيم ، وسره في نعيم ، وعلانيته في نعيم " .

حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا أبو بكر الدينوري ، ثنا محمد بن أحمد الشمشاطي ، قال : سمعت ذا النون المصري ، يقول : " إن لله عبادا أسكنهم دار السلام فأخمصوا البطون عن مطاعم الحرام ، وأغمضوا الجفون عن مناظر الآثام ، وقيدوا الجوارح عن فضول الكلام ، وطووا الفرش وقاموا جوف الظلام ، وطلبوا الحور الحسان من الحي الذي لا ينام ، فلم يزالوا في نهارهم صياما وفي ليلهم قياما ، حتى أتاهم ملك الموت عليه السلام " .

التالي السابق


الخدمات العلمية