صفحة جزء
قيل لذي النون : ما الأنس بالله ؟ قال : " العلم والقرآن " .

حدثنا عثمان ، ثنا أحمد بن محمد بن عيسى ، ثنا محمد بن أحمد بن سلمة ، قال : سمعت ذا النون ، وقيل له : ما علامة الأنس بالله ؟ قال : " إذا رأيت أنه يوحشك من خلقه فإنه يؤنسك بنفسه ، وإذا رأيت أنه يؤنسك بخلقه فاعلم أنه يوحشك من خلقه . ثم قال : الدنيا لله أمة والخلق لله عبيد ، خلقهم للطاعة وضمن لهم أرزاقهم ، فحرصوا على أمته وقد نهاهم عنها ، وطلبوا الأرزاق وقد ضمنها لهم ، فلا هم على أمته قدروا ولا هم في أرزاقهم استزادوا ، ثم قال :


عجبا لقلبك كيف لا يتصدع ولركن جسمك كيف لا يتضعضع     فاكحل بملمول السهاد لدى الدجى
إن كنت تفهم ما أقول وتسمع     منع القرآن بوعده ووعيده
فعل العيون بليلها أن تهجع     فهموا عن الملك الكريم كلامه
فهما تذل له الرقاب وتخضع



حدثنا عثمان بن محمد العثماني ، ثنا أبو الحسن الرازي ، قال : سمعت يوسف بن الحسين ، يقول : قال ذو النون : " صدور الأحرار قبور الأسرار " .

وقال : وسئل ذو النون : لم أحب الناس الدنيا ؟ قال : " لأن الله تعالى جعلها خزانة أرزاقهم فمدوا [ ص: 378 ] أعينهم إليها " .

وقيل له : ما إسناد الحكمة قال : " وجودها " .

وسئل يوما : فيم يجد العبد الخلاص ؟ فقال : " الخلاص في الإخلاص ، فإذا أخلص تخلص " ، فقيل : فما علامة الإخلاص ؟ قال : " إذا لم يكن في عملك صحبة المخلوقين ، ولا مخافة ذمهم ، فأنت مخلص إن شاء الله تعالى " .

حدثنا عثمان بن محمد ، قال : سمعت أحمد بن عبد الله بن سليمان الدمشقي ، يقول : سمعت أبا جعفر محمد بن خلف بن ضوء الرقي ، يقول : سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن عبد الله الصوفي ، يقول : سئل ذو النون المصري عن المحبة فقال : " هي التي لا تزيدها منفعة ، ولا تنقصها مضرة ، ثم أنشأ يقول :


شواهد أهل الحب باد دليلها     بأعلام صدق ما يضل سبيلها
جسوم أولي صدق المحبة والرضى     تبين عن صدق الوداد نحولها
إذا ناجت الأفهام أنس نفوسهم     بألسنة تخفى على الناس قيلها
وضجت نفوس المستهامين واشتكت     جوى كان عن أجسامها شربيلها
يحنون حزنا ضاعف الخوف شجوه     ونيران شوق كالسعير عليلها
وساروا على حب الرشاد إلى العلى     قوم بهم تقواه وهو دليلها
فحطوا بدار القدس في خير منزل     وفاز بزلفى ذي الجلال حلولها



أخبرنا محمد بن أحمد بن يعقوب البغدادي ، ثنا أبو جعفر محمد بن عبد الملك بن هاشم ، قال : قلت لذي النون : كم الأبواب إلى الفطنة ؟ قال : " أربعة أبواب : أولها الخوف ، ثم الرجاء ، ثم المحبة ، ثم الشوق . ولها أربعة مفاتيح : فالفرض مفتاح باب الخوف ، والنافلة مفتاح باب الرجاء ، وحب العبادة والشوق مفتاح باب المحبة ، وذكر الله الدائم بالقلب واللسان مفتاح باب الشوق ، وهي درجة الولاية ، فإذا هممت بالارتقاء في هذه الدرجة فتناول مفتاح باب الخوف ، فإذا فتحته اتصلت إلى باب الفطنة مفتوحا لا غلق عليه ، فإذا دخلته فما أظنك تطيق ما ترى فيه حينئذ يجوز شرفك الأشراف ويعلو ملكك ملك الملوك ، واعلم أي أخي أنه ليس بالخوف ينال الفرض ، ولكن بالفرض ينال الخوف ، ولا بالرجاء تنال النافلة ، ولكن بالنافلة ينال الرجاء ، كما [ ص: 379 ] أنه ليس بالأبواب تنال المفاتيح ولكن بالمفاتيح تنال الأبواب ، واعلم أنه من تكامل فيه الفرض فقد تكامل فيه الخوف ، ومن جاء بالنافلة فقد جاء بالرجاء ، ومن جاء بمحبة العبادة ، فقد وصل إلى الله ، ومن شغل قلبه ولسانه بالذكر قذف الله في قلبه نور الاشتياق إليه ، وهذا سر الملكوت فاعلمه واحفظه حتى يكون الله عز وجل هو الذي يناوله من يشاء من عباده " .

حدثنا أبو أحمد عاصم بن محمد الأيلي ، قال : سمعت الفضل بن صدقة الواسطي ، يقول : سمعت ذا النون المصري ، يقول : " إذا اطلع الخبير على الضمير فلم يجد في الضمير غير الخبير جعل فيه سراجا منيرا " .

حدثنا محمد بن إبراهيم بن أحمد ، حدثني سالم بن جميل الواسطي ، قال : سمعت الشمشاطي ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام : يا موسى كن كالطير الوحداني يأكل من رءوس الأشجار ويشرب من ماء القراح ، إذا جنه الليل أوى إلى كهف من الكهوف استئناسا بي ، واستيحاشا ممن عصاني ، يا موسى إني آليت على نفسي أن لا أتم لمة بر من دوني عملا ، يا موسى لأقطعن أمل كل مؤمل يؤمل غيري ، ولأقصمن ظهر من استند إلى سوائي ، ولأطيلن وحشة من استأنس بغيري ، ولأعرضن عن من أحب حبيبا سوائي ، يا موسى إن لي عبادا إن ناجوني أصغيت إليهم ، وإن نادوني أقبلت عليهم ، وإن أقبلوا علي أدنيتهم ، وإن دنوا مني قربتهم ، وإن تقربوا مني اكتنفتهم ، وإن والوني واليتهم ، وإن صافوني صافيتهم ، وإن عملوا لي جازيتهم ، هم في حماي وبي يفتخرون ، وأنا مدبر أمورهم ، وأنا سائس قلوبهم ، وأنا متولي أحوالهم ، لم أجعل لقلوبهم راحة في شيء إلا في ذكري ، فذكري لأسقامهم شفاء ، وعلى قلوبهم ضياء ، لا يستأنسون إلا بي ، ولا يحطون رحال قلوبهم إلا عندي ، ولا يستقر قرارهم في الإيواء إلا إلي . ثم قال ذو النون : هم يا أخي قوم قد ذوب الحزن أكبادهم ، وأنحل الخوف أجسامهم ، وغير السهر ألوانهم ، وأقلق خوف البعث قلوبهم ، قد سكنت [ ص: 380 ] أسرارهم إليه ، وتذللت قلوبهم عليه ، فنفوسهم عن الطاعة لا تسلو ، وقلوبهم عن ذكره لا تخلو ، وأسرارهم في الملكوت تعلو ، الخشوع يخشع لهم إذا سكتوا ، والدموع تخبر عن خفي حرقتهم إذا كمدوا ، قدسوا فرج الشهوات بحلاوة المناجاة ، فليس للغفلة عليهم مدخل ، ولا للهو فيهم مطمع ، قد حجب التوفيق بينهم وبين الآفات ، وحالت العصمة بينهم وبين اللذات ، فهم على بابه يبكون ، وإليه يبكون ، ومنه يبكون ، فيا طوبى للعارفين ، ما أغنى عيشهم ، وما ألذ شربهم ، وما أجل حبيبهم " .

حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : " من ذبح خنجر الطمع بسيف الإياس ، وردم خندق الحرص ظفر بكيمياء الحزمة ، ومن استقى بحبل الزهد على دلو الغروف استقى من حب الحكمة ، ومن سلك أودية الكمد بحياء حياة الأبد ، ومن حصد عشب الذنوب بمنجل الورع أضاءت له روضة الاستقامة ، ومن قطع لسانه بشفرة الصمت وجد طعم عذوبة الراحة ، ومن تدرع بدرع الصدق قوي على مجاهدة عسكر الباطل واعتدل خوفه ورجاؤه ، وحسن في الآخرة مثواه ، ومن فرح بمدحة الجاهل الشيطان ثوبه الحماقة " .

حدثنا أبي ، ثنا أحمد ، ثنا سعيد ، قال ذو النون وسأله رجل فقال : يا أبا الفيض ما التوكل ؟ فقال له : " خلع الأرباب وقطع الأسباب " . فقال له : زدني فيه حالة أخرى ، فقال : " إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية " .

قال : وسمعت ذا النون يقول : " طوبى لمن تطهر ولزم الباب ، طوبى لمن تضمر للسباق ، طوبى لمن أطاع الله أيام حياته " .

قال : وسمعته يقول : " من وثق بالمقادير استراح ، ومن صحح استراح ، ومن تقرب قرب ، ومن صفى صفي له ، ومن توكل وفق ، ومن تكلف ما لا يعنيه ضيع ما يعنيه " .

حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد ، ثنا سعيد بن عثمان ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : " بينا أنا سائر في بلاد العرب إذا أنا برجل على عريش من البلوط وعنده عين ماء تجري فأقمت عليه يوما وليلة أريد أن أسمع كلامه ، فأشرف علي بوجهه [ ص: 381 ] فسمعته يقول : شهد قلبي لله بالنوازل ، وكيف لا يشهد قلبي بذلك ، وكل أمورهم إليك ، فحسب من اغتر بك أن يألف قلبه غيرك ، هيهات هيهات ، لقد خاب لديك المقصرون ، سيدي ما أحلى ذكرك ، أليس قصدك مؤملوك فنالوا ما أملوا ، وجدت لهم منك بالزيادة على ما طلبوا . فقلت له : يا حبيبي إني مقيم عليك منذ يوم وليلة أريد أن أسمع من كلامك . فقال لي : قد رأيتك يا بطال حين أقبلت ، ولكن ما ذهب روعك من قلبي إلى الآن . فقلت له : ولم ذلك ؟ وما الذي أفزعك مني ؟ فقال : بطالتك في يوم عملك ، وشغلك في يوم فراغك ، وتركك الزاد ليوم معادك ، ومقامك على المظنون . فقلت : إن الله تعالى كريم ما ظن به أحد شيئا إلا أعطاه . فقال : إنه لكذلك إذا وافقه العمل الصالح والتوفيق ، فقلت له : رحمك الله يا حبيبي ، ما هاهنا فتية تستأنس بهم ؟ فقال : بلى ، ههنا فتية متفرقون في رءوس الجبال . قلت : فما طعامهم في هذا المكان ؟ قال : أكلهم الفلق من خبز البلوط ، ولباسهم الخرق من الثياب ، قد يئسوا من الدنيا ويئست الدنيا منهم ، قد لصقوا بمقام الأرض ، وتلففوا بالخرق ، فلو رأيتهم رجالا إذا جنهم الليل بسكاكين السهر . فقلت له : يا حبيبي فما مع القوم دواء يتعالجون به من الألم ؟ قال : بلى ، قلت : وما ذاك الدواء ؟ قال : إذا أكلوا أضافوا من الكلال بالكلال ، وجدوا بالارتحال ، فتسكن العروق ويهدأ الألم . فقلت له : يا حبيبي فلا يسيرون بجد ، فقال : هذا تقول يا بطال ، إن القوم أعطوا الجهود من أنفسهم ، فلما دبرت المفاصل من الركوع ، وقرحت الجباه من السجود ، وتغيرت الألوان من السهر ضجوا إلى الله بالاستعانة ، فهم أحلاف اجتهاد يهيمون فلا تقربهم الأوطان ، ولا يسكنون إلى غير الرحمن . فقلت له : حبيبي أوصني ، فقال لي : عليك بمعاقبة نفسك إذا دعتك إلى بلية ، ومنابذتها إذا دعتك إلى الفترة ، فإن لها مكرا وخداعا فإذا فعلت هذا الفعل أغناك عن المخلوقين وسلاك عن مجالسة الفاسقين " .

حدثنا أبي ، ثنا أحمد ، ثنا سعيد ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : " أسفرت منازل الدجى ، وثبتت حجج الله على خلقه فآخذ بحظه ومضيع لنفسه ، [ ص: 382 ] فمنارة حكمته وحجته كتابه . فقامت الدنيا ببهجتها فأقعدت المريد وألهت الغافل ، فلا المريد طلب دواءه ولا الغافل عرف داءه . ثم خص الله خصائص من خلقه فعرفهم حكمته فنظروا من أعين القلوب إلى محجوب ، فساحت أرواحهم في ملكوت السماء ثم عادت إليهم بأطيب جني ثمار السرور ، فعند ذلك صيروا الدنيا معبرا والآخرة منزلا ، همتهم وقلوبهم عند ربهم ، فأول ابتداء نعمة الله على من اختص الله من خلقه إهاجة النفوس على مناظر العقول ، فعند ذلك قام لها شواهد من المعرفة تقف به عند العجز والتقصير ، وهما حالان يورثان الهم ، ويحثان على الطلب ولن تغنى النفس إلا بالعلم بالله " .

حدثنا عثمان بن محمد ، حدثني أبو بكر الصيدلاني ، حدثني جدي أحمد بن إبراهيم ، قال : كتب رجل إلى ذي النون يسأله عن حاله ، فكتب إليه ذو النون : " ما لي حال أرضاها ولا لي حال لا أرضاها ، كيف أرضى حالي لنفسي إذ لا يكون مني إلا ما أراد من الأحوال ، ولست أدري أيا أحسن ؟ حالي في حسن إحسانه إلي ، أم حسن حالي في سوء حالي إذ كان هو المختار لي ، غير أني في عافية ما دمت في العافية التي أظن أنها عافية ، إلا أني أجد طعم ما عنده للذي تقدم من مرارة القديم ، وما حاجتي إلى أن أعلم ما هو إذ كان هو قد علم ما هو كائن ، وهو المكون للأشياء وهو الذي اختاره لي " .

حدثنا عثمان بن محمد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى ، قال : سمعت يوسف بن الحسين ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " من وجد فيه خمس خصال رجوت له السعادة ولو قبل موته بساعة قيل : ما هي ؟ قال : سوء الخلق عنه ، وخفة الروح ، وغزارة العقل وصفاء التوحيد وطيب المولد " .

حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن عبد العزيز الرازي بنيسابور ، قال : سمعت يوسف بن الحسين ، يقول : قلت لذي النون لما أردت توديعه : أوصني رضي الله عنك بوصية أحفظها عنك . فقال : " لا تكن خصما لنفسك على ربك مستزيده في رزقك وجاهك ، ولكن خصما لربك على نفسك فإنه لا يجتمع معك وعليك ، ولا تلقين أحدا بعين الازدراء والتصغير ، وإن كان مشركا خوفا من [ ص: 383 ] عاقبتك وعاقبته ، فلعلك تسلب المعرفة ويرزقها " .

سمعت أبا بكر يقول : سمعت يوسف بن الحسين ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " لا يتفكر القلب لغير الله إلا إذا كان عليه عقوبة " .

حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد ، ثنا سعيد بن عثمان ، قال : سمعت ذا النون يقول : " اللهم اجعلنا من الذين استظلوا تحت رواق الحزن ، وقرءوا صحف الخطايا ، ونشروا دواوين الذنوب ، فأورثهم الفكر الصالحة في القلب ، اللهم واجعلنا من الذين أدبوا أنفسهم بلذة الجوع وتزينوا بالعلم ، وسكنوا حظيرة الورع ، وغلقوا أبواب الشهوات ، وعرفوا مسير الدنيا بموقنات المعرفة حتى نالوا علو الزهد فاستعذبوا مذلة النفوس فظفروا بدار الجلال ، وتواسوا بينهم بالسلام ، واجعلنا من الذين فتقت لهم رتق غواشي جفون القلوب ، حتى نظروا إلى تدبير حكمتك وشواهد حجج تبيانك فعرفوك بموصول فطن القلوب ، فرقيت أرواحهم عن أطراف أجنحة الملائكة ، فسماهم أهل الملكوت زوارا وأهل الجبروت عمارا ، وتردوا في مصاف المسبحين ولاذوا بأفنية المقدسين فتعلقوا بحجاب العزة وناجوا ربهم عند مطارفة كل شهوة حتى نظروا بأبصار القلوب إلى عز الجلال إلى عظيم الملكوت ، فرجعت القلوب إلى الصدور على الثبات بمعرفة توحيدك فلا إله إلا أنت " .

التالي السابق


الخدمات العلمية