صفحة جزء
حدثنا عثمان بن محمد ، ثنا أبو بكر البغدادي ، قال : سمعت عبد الله بن سهل الرازي ، يقول : سمعت يحيى بن معاذ ، يقول : قال ذو النون : " حقيقة السخاء أن تلزم البخيل في منعه إياك لوما لأنك إنما لمته واشتغلت به لوقوع ما منعك في قلبك ، ولو هان ذلك عليك لم تشتغل بلومه ، ثم أنشأ يقول :


كريم كصفو الماء ليس بباخل بشيء ولا مهد ملاما لباخل



حدثنا عثمان بن محمد ، قال : سمعت أبا الحسن المذكر ، يذكر عن بعض أشياخه عن ذي النون ، قال : " صحبت زنجيا في التيه وكان مفلفل الشعر ، فإذا ذكر الله ابيض ، فورد علي أمر عظيم فقلت : لم يا هذا إنك إذا ذكرت الله تحول لونك وانقلبت عيناك ؟ قال : فجعل يخطر في التيه ويقول :


ذكرنا وما كنا لننسى فنذكر     ولكن نسيم القلوب يبدو فيظهر
فأحيي به عني وأحيي به له     إذ الحق عنه مخبر ومعبر



قال ذو النون : فما طرق سمعي مثل حكمة ذلك الزنجي ، فعلمت أن لله تعالى عبادا تعلو قلوبهم بالأذكار كما تعلو الأطيار في الأوكار ، لو فتشت منهم القلوب لما وجدت فيها غير حب المحبوب . قال : ثم بكى ذو النون ، وأنشأ يقول :


وأذكر أصنافا من الذكر حشوها     وداد وشوق يبعثان على الذكر
فذكر أليف الحب ممتزج بها     يحل محل الروح في طرفها يسري
[ ص: 392 ] وذكر يعز النفس منها لأنه     لها متلف من حيث يدري ولا تدري
وذكر علا مني المفاوز والذرى     يجل عن الأوصاف بالوهم والفكر



أخبرنا محمد بن أحمد البغدادي - في كتابه - ، وحدثني عنه عثمان بن محمد ، حدثني أبو محمد عبد الله بن سهل ، قال : سمعت ذا النون المصري أبا الفيض ، وسألته قلت : متى تخلص لله صلاتي ؟ قال : " إذا سكنت معادن الأنوار من قلبك ، ونفذته في ملكوت همك " . قلت : متى يتم زهدي بعد ورعي ؟ قال : " إذا جعلت الفرض لك معلما ، وأقمت الطاعة لك مفهما " . قلت : فمتى أومن ؟ قال : " إذا اشتمل الفرض على أمرك ، وملكت الطاعة على نفسك " قلت : فمتى أتوكل ؟ قال : " اليقين إذا تم سمي توكلا " قلت : متى يتم حبي لربي ؟ قال : " إذا سمجت الدنيا في عينك ، وقذفت أملك فيها بين يديك " . قلت : فمتى أخاف ربي ؟ قال : " إذا سرحت بصرك في عظمته ، ومثلت لنفسك أمثال نقمته " . قلت : فمتى يتم صومي ؟ قال : " إذا جوعت نفسك من البغضاء ، وأمت لسانك من الفحشاء " . قلت : فمتى أعرف ربي ؟ قال : " إذا كان لك جليسا ، ولم تر لنفسك سواه أنيسا " ، قلت : فمتى أحب ربي ؟ قال : " إذا كان ما أسخطه عندك أمر من الصبر " قلت : فمتى أشتاق إلى ربي ؟ قال : " إذا جعلت الآخرة لك قرارا ولم تسم الدنيا لك مسكنا ودارا " ، قلت : فمتى يشتد في بغض الدنيا ؟ قال : " إذا جعلت الدنيا طريق مخافة لا تلتفت إلى ما قطعت منها ، وجعلت الآخرة ساحة مأمونة لا تأمن إلا بالنزول فيها " .

قلت : فمتى أحب لقاء ربي ؟ قال : " إذا كنت تقدم على حبيب وتصير عن أمر قريب " . قلت : فمتى أستلذ الموت ؟ قال : " إذا جعلت الدنيا خلف ظهرك ، وجعلت الآخرة نصب عينيك " . قلت : فمتى أتقي شهوات مطاعم الأرض ؟ قال : " إذا خالط قلبك الملكوت ومزج في سرائر الجبروت " ، قلت : فمتى تطيب معرفتي ، قال : " إذا استوحشت من الدنيا واشتد فرحك بنزول البلاء " . قلت : فمتى أستقبح الدنيا ؟ قال : " إذا علمت أن زينتها فساد كل معنى ، وأن محاسنها تفضي إلى كل حسرة " . قلت : فمتى أكتفي بأهون الأغذية ؟ قال : " إذا عرفت هلاك الشهوات وسرعة انقطاع عذوبة اللذات " . قلت : فمتى قنوع التمام ؟ قال : " إذا [ ص: 393 ] كان زخرف الدنيا عندك صغيرا ، وكان خوف الآخرة لك ذكرا " . قلت : فمتى أستحق ترك الجمع ؟ قال : " إذا عرفت أنك منقول إلى معاد ، وأنك مأخوذ بتبعات العباد " . قلت : فمتى آمر بالمعروف ؟ قال : " إذا كانت شفقتك على غيرك ، وخالفت العباد لمحبة ربك " . قلت : فمتى أوثر الله ولا أوثر عليه سواه ؟ قال : " إذا أبغضت فيه الحبيب وجانبت فيه القريب " . قلت : فمتى أفزع إلى ذكره وآنس بشكره ؟ قال : " إذا سررت ببلائه ، وفرحت بنزول قضائه " .

حدثنا أبي ، ثنا أحمد بن محمد بن مصقلة ، ثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان ، قال : سمعت ذا النون ، يقول : " المستأنس بالله في وقت استئناسه يستأنس بجميع ما يرى ويسمع ويحس به في ملكوت ربه ، والمهيب له يهاب جميع ما يرى ويسمع ويحس به في ملك ربه ويستأنس بالذر فما دونه ويهابه " .

قال : وقال ذو النون : " ثلاثة من أعلام الإسلام : النظر لأهل الملة ، وكف الأذى عنهم ، والعفو عند القدرة لمسيئهم ، وثلاثة من أعلام الإيمان : إسباغ الطهارات في المكاره ، وارتعاش القلب عند الفرائض حتى يؤديها ، والتوبة عند كل ذنب خوفا من الإصرار . وثلاثة من أعلام التوفيق : الوقوع في الأعمال بلا استعداد له ، والسلامة من الذنب مع الميل وقلة الهرب منه ، واستخراج الدعاء والابتهال . وثلاثة من أعلام الخمول : ترك الكلام لمن يكفيه الكلام ، وترك الحرص في إظهار العلم عند القرناء ، ووجدان الألم لكراهة الكلام عند المحاورة والموعظة . وثلاثة من أعلام الحلم : قلة الغضب عند مخالفة الرأي ، والاحتمال عن الورى إخباتا للرب ، ونسيان إساءة المسيء عفوا عنه واتساعا عليه . وثلاثة من أعلام التقوى : ترك الشهوة المذمومة مع الاستمكان منها ، والوفاء بالصالحات مع نفور النفس منها ، ورد الأمانات إلى أهلها مع الحاجة إليها . وثلاثة من أعلام الاتعاظ بالله : الهرب إليه من كل شيء ، وسؤال كل شيء منه ، والدلال في كل وقت عليه . وثلاثة من أعلام الرجاء : العبادة بحلاوة القلب ، والإنفاق في سبيل الله برؤية الثواب ، والمثابرة على فضائل الأعمال بخالص التنافس . وثلاثة من أعلام الحب في الله : [ ص: 394 ] بذل الشيء لصفاء الود ، وتعطيل الإرادة لإرادة الله ، والسخاء بالنفس والمشاركة في محبوبه ومكروهه بصفة العقد ، وثلاثة من أعلام الحياء : وزن الكلام قبل التفوه به ، ومجانبة ما يحتاج إلى الاعتذار منه ، وترك إجابة السفيه حلما عنه . فأما الحياء من الله تعالى فهو ما قال الرسول عليه الصلاة والسلام : " أن لا تنسى المقابر والبلا ، وأن تحفظ الرأس وما حوى ، وأن تترك زينة الحياة الدنيا " وثلاثة من أعلام الأفضال : صلة القاطع ، وإعطاء المانع ، والعفو عن الظالم ، وثلاثة من أعلام الصدق : ملازمة الصادقين ، والسكون عند نظر المنفوسين ، ووجدان الكراهة لاطلاع الخلق على السرائر استقامة على الحق سرا وجهرا ، لإيثار رب العالمين .

وثلاثة من أعلام الانقطاع إلى الله : تقديم العلم ، وتلقين الحكم ، وتأليل الفهم . وثلاثة من أعلام المروءة : إطعام الطعام ، وإفشاء السلام ، ونشر الحسن . وثلاثة من أعلام التودد : التأني في الأحداث ، والتوقر في الزلال ، والترفق في المقال . وثلاثة من أعمال الرشد : حسن المجاورة ، والنصح عند المشاورة ، والبر في المجاورة . وثلاثة من أعلام السعادة : الفقه في الدين ، والتيسير للعمل ، والإخلاص في السعي " .

أخبرنا محمد بن الحسين بن موسى النيسابوري ، أنبأنا الحسن بن رشيق ، ثنا علي بن يعقوب ، عن سويد الوراق ، ثنا محمد بن إبراهيم البغدادي ، ثنا محمد بن سعيد الخوارزمي ، قال : سمعت ذا النون ، وسئل عن المحبة ، فقال : " أن تحب ما أحب الله ، وتبغض ما أبغض الله ، وتفعل الخير كله ، وترفض كل ما يشغل عن الله ، وأن لا تخاف في الله لومة لائم مع العطف للمؤمنين ، والغلظة للكافرين ، واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدين " .

أخبرنا محمد ، قال : سمعت أبا بكر بن شاذان الرازي ، يقول : سمعت يوسف بن الحسين ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " قال الله تعالى : من كان لي مطيعا كنت له وليا ، فليثق بي ، وليحكم علي ، فوعزتي لو سألني زوال الدنيا لأزلتها له " .

أخبرني محمد بن أحمد البغدادي - في كتابه - وقد رأيته ، وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني ، قال : سمعت عبد الله بن محمد بن ميمون ، يقول : سمعت ذا النون ، [ ص: 395 ] يقول : " الأنس بالله من صفاء القلب مع الله ، والتفرد بالله الانقطاع إليه من كل شيء سوى الله " .

أخبرنا محمد بن الحسين ، قال : سمعت منصور بن عبد الله ، يقول : سمعت العباس بن يوسف ، يقول : سمعت سعيد بن عثمان ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " لئن مددت يدي إليك داعيا لطالما كفيتني ساهيا ، فلا أقطع منك رجائي بما عملت يداي ، حسبي من سؤالي علمك بي " .

قال : وسمعت ذا النون ، يقول : " من أنس بالخلق فقد استمكن من بساط الفراعنة ، ومن غيب عن ملاحظة نفسه فقد استمكن من مجانبة الإخلاص ، ومن كان حظه من الأشياء هواه لا يبالي ما فاته مما هو دونه " .

حدثنا محمد ، قال : سمعت علي بن محمد ، قال : قال يوسف بن الحسين : سمعت ذا النون يقول : من تزين بعمله كانت حسناته سيئات .

وسمعت ذا النون يقول : الصدق سيف الله في أرضه ما وضعه على شيء إلا قطعه .

قال : وسمعت ذا النون ، يقول : " أدنى منازل الأنس أن يلقى في النار فلا يغيب همه عن مأموله " .

سمعت نصر بن أبي نصر ، يقول : قال ذو النون : " الخوف رقيب العمل ، والرجاء شفيع المحن " .

أخبرنا محمد بن الحسين ، قال : سمعت أحمد بن علي بن جعفر ، يقول : سمعت الحسن بن سهل ، يقول : سمعت علي بن عبد الله ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " مفتاح العبادة الفكرة ، وعلامة الهوى متابعة الشهوات ، وعلامة التوكل انقطاع المطامع " .

أخبرنا محمد ، قال : سمعت أبا جعفر الرازي ، يقول : سمعت العباس بن حمزة ، يقول : سمعت ذا النون ، يقول : " إن العارف لا يلزم حالة واحدة إنما يلزم ربه في الحالات كلها " .

التالي السابق


الخدمات العلمية