صفحة جزء
أخبرني أبو بكر محمد بن أحمد - في كتابه قبل أن لقيته - وحدثني بهذا عنه ، عثمان بن محمد العثماني ، حدثني أبو عبد الله أحمد بن عبد الله بن ميمون ، قال : سمعت الحارث بن أسد ، يقول : " إن أول المحبة الطاعة ، وهي منتزعة من حب السيد - عز وجل - إذ كان هو المبتدئ بها ، وذلك أنه عرفهم نفسه ، ودلهم على طاعته وتحبب إليهم ، على غناه عنهم ، فجعل المحبة له ودائع في قلوب محبيه ، ثم ألبسهم النور الساطع في ألفاظهم من شدة نور محبته في قلوبهم ، فلما فعل ذلك بهم عرضهم -سرورا بهم- على ملائكته ، حتى أحبهم الذين ارتضاهم لسكنى أطباق سمواته ، نشر لهم الذكر الرفيع عن خليقته ، قبل أن يخلقهم مدحهم ، وقبل أن يحمدوه شكرهم ، لعلمه السابق فيهم أنه يبلغهم ما كتب لهم ، وأخبر به عنهم ، ثم أخرجهم إلى خليقته وقد استأثر بقلوبهم عليهم ، ثم رد أبدان العلماء إلى الخليقة ، وقد أودع قلوبهم خزائن الغيوب ، فهي معلقة بمواصلة المحبوب ، فلما أراد أن يحييهم ويحيي الخليقة بهم أسلم لهم هممهم ، ثم أجلسهم على كرسي أهل المعرفة ، فاستخرجوا من المعرفة المعرفة بالأدواء ، ونظروا بنور معرفته إلى منابت الدواء ، ثم عرفهم من أين يهيج الداء ، وبما يستعينون على [ ص: 77 ] علاج قلوبهم ، ثم أمرهم بإصلاح الأوجاع ، وأوعز إليهم في الرفق عند المطالبات ، وضمن لهم إجابة دعائهم عند طلب الحاجات ، نادى بخطرات التلبية من عقولهم في أسماع قلوبهم ، أنه تبارك وتعالى يقول : " يا معشر الأدلاء ، من أتاكم عليلا من فقدي فداووه ، وفارا من خدمتي فردوه ، وناسيا لأيادي ونعمائي فذكروه ، لكم خاطبت لأني حليم ، والحليم لا يستخدم إلا الحلماء ، ولا يبيح المحبة للبطالين ضنا بما استأثر منها ، إذ كانت منه وبه تكون ، فالحب لله هو الحب المحكم الرصين ، وهو دوام الذكر بالقلب واللسان لله ، وشدة الأنس بالله ، وقطع كل شاغل شغل عن الله ، وتذكار النعم والأيادي ، وذلك أن من عرف الله بالجود والكرم والإحسان اعتقد الحب له ؛ إذ عرفه بذلك أنه عرفه بنفسه وهداه لدينه ، ولم يخلق في الأرض شيئا إلا وهو مسخر له وهو أكرم عليه منه ، فإذا عظمت المعرفة واستقرت هاج الخوف من الله وثبت الرجاء ، قلت : خوفا لماذا ؟ ورجاء لماذا ؟ قال : خوفا لما ضيعوا في سالف الأيام لازما لقلوبهم ، ثم خوفا ثابتا لا يفارق قلوب المحبين ، خوفا أن يسلبوا النعم إذا ضيعوا الشكر على ما أفادهم ، فإذا تمكن الخوف من قلوبهم ، وأشرفت نفوسهم على حمل القنوط عنهم هاج الرجاء بذكر سعة الرحمة من الله ، فرجاء المحبين تحقيق ، وقربانهم الوسائل ، فهم لا يسأمون من خدمته ، ولا ينزلون في جميع أمورهم إلا عند أمره ; لمعرفتهم به أنه قد تكفل لهم بحسن النظر ، ألم تسمع إلى قول الله : ( الله لطيف بعباده ) فدخلت النعم كلها في اللطف ، واللطف ظاهر على محبته خاصة دون الخليقة ، وذلك أن الحب إذا ثبت في قلب عبد لم يكن فيه فضل لذكر إنس ولا جان ، ولا جنة ولا نار ، ولا شيء إلا ذكر الحبيب وذكر أياديه وكرمه ، وذكر ما دفع عن المحبين له من شر المقادير ، كما دفع عن إبراهيم الخليل - عليه السلام - وقد أججت النار وتوعده المعاند بلهب الحريق ، فأراه - جل وعز - آثار القدرة في مقامه ، ونصرته لمن قصده ، ولا يريد به بدلا ، وذكر ما وعد أولياءه من زيارتهم إياه وكشف الحجب لهم ، وأنهم لا يحزنهم الفزع الأكبر في يوم فزعهم إلى معونته على شدائد الأخطار ، [ ص: 78 ] والوقوف بين الجنة والنار ، قال الحارث : وقيل : إن الحب لله هو شدة الشوق ، وذلك أن الشوق في نفسه تذكار القلوب بمشاهدة المعشوق ، وقد اختلف العلماء في صفة الشوق ، فقالت فرقة منهم : الشوق انتظار القلب دولة الاجتماع ، وسألت رجلا لقيته في مجلس الوليد بن شجاع يوما عن الشوق : متى يصح لمن ادعاه ؟ فقال : إذا كان لحالته صائنا مشفقا عليها من آفات الأيام ، وسوء دواعي النفس ، وقد صدق العالم في قوله ، وذلك أن المشتاقين لولا أنهم ألزموا أنفسهم التهم والمذلة لسلبوا عذوبات الفوائد التي ترد من الله على قلوب محبيه ، قلت : فما الشوق عندك ؟ قال : الشوق عندي سراج نور من نور المحبة غير أنه زائد على نور المحبة الأصلية ، قلت : وما المحبة الأصلية ؟ قال : حب الإيمان ، وذلك أن الله تعالى قد شهد للمؤمنين بالحب له ، فقال : ( والذين آمنوا أشد حبا لله ) فنور الشوق من نور الحب وزيادته من حب الوداد ، وإنما يهيج الشوق في القلب من نور الوداد ، فإذا أسرج الله ذلك السراج في قلب عبد من عباده لم يتوهج في فجاج القلب إلا استضاء به ، وليس يطفئ ذلك السراج إلا النظر إلى الأعمال بعين الأمان ، فإذا أمن على العمل من عدوه لم يجد لإظهاره وحشة السلب ، فيحل العجب وتشرد النفس مع الدعوى وتحل العقوبات من المولى ، وحقيق على من أودعه الله وديعة من حبه ، فدفع عنان نفسه إلى سلطان الأمان ، أن يسرع به السلب إلى الافتقاد .

وقالت امرأة من العوابد : والله ، لو وهب الله لأهل الشوق إلى لقائه حالة لو فقدوها لسلبوا النعيم ، قيل لها : وما تلك الحالة ؟ قالت : استقلال الكثير من أنفسهم ، ويعجبون منها كيف صارت مأوى لتلك الفوائد ، وقيل لبعض العباد : أخبرنا عن شوقك إلى ربك ما وزنه في قلبك ؟ فقال العابد للسائل : لمثلي يقال هذا ؟ لا يمكن أن يوزن في القلب شيء إلا بحضرة النفس ، وإن النفس إذا حضرت أمرا في القلب من ميراث القربة قذفت فيه أسباب الكدورات ، وقيل لمضر القارئ : الخوف أولى بالمحب أم الشوق ؟ فقال : هذه مسألة لا أجيب فيها ، ما اطلعت النفس على شيء قط إلا أفسدته ، وأنشدني عبد العزيز بن عبد الله في ذلك يقول :

[ ص: 79 ]

الخوف أولى بالمسيء إذا ناله الحزن     والحب يحسن بالمطيع
وبالنقي من الدرن     والشوق للنجباء والأبدا
ل عن ذوي الفطن



فلذلك قيل : الحب هو الشوق لأنك لا تشتاق إلا إلى حبيب ، فلا فرق بين الحب والشوق إذا كان الشوق فرعا من فروع الحب الأصلي ، وقيل : إن الحب يعرف بشواهده على أبدان المحبين وفي ألفاظهم ، وكثرة الفوائد عندهم لدوام الاتصال بحبيبهم ، فإذا واصلهم الله أفادهم ، فإذا ظهرت الفوائد عرفوا بالحب لله ، ليس للحب شبح ماثل ولا صورة فيعرف بجبلته وصورته ، وإنما يعرف المحب بأخلاقه وكثرة الفوائد التي يجريها الله على لسانه بحسن الدلالة عليه ، وما يوحى إلى قلبه ، فكلما ثبتت أصول الفوائد في قلبه نطق اللسان بفروعها ، فالفوائد من الله واصلة إلى قلوب محبيه ، فأبين شواهد المحبة لله شدة النحول بدوام الفكر ، وطول السهر بسخاء الأنفس على الأنفس بالطاعة ، وشدة المبادرة خوف المعاجلة ، والنطق بالمحبة على قدر نور الفائدة ، فلذلك قيل : إن علامة الحب لله حلول الفوائد من الله بقلوب من اختصه الله بمحبته ، وأنشد بعض العلماء :


وله خصائص يكلفون بحبه     اختارهم في سالف الأزمان
اختارهم من قبل فطرة خلقهم     بودائع وفوائد وبيان



فالحب لله في نفسه استنارة القلب بالفرح لقربه من حبيبه ، فإذا استنار القلب بالفرح استلذ الخلوة بذكر حبيبه ، فالحب هائج غالب ، والخوف لقلبه لازم لا هائج ، إلا أنه قد ماتت منه شهوة كل معصية ، وهدي لأركان شدة الخوف ، وحل الأنس بقلبه لله ، فعلامة الأنس استثقال كل أحد سوى الله ، فإذا ألف الخلوة بمناجاته حبيبه استغرقت حلاوة المناجاة العقل كله حتى لا يقدر أن يعقل الدنيا وما فيها ، ومن ذلك قول ضيغم العابد : " عجبا للخليقة كيف استنارت قلوبهم بذكر غيرك " ؟ وحدثني أبو محمد ، قال : " أوحى الله تعالى إلى داود - عليه السلام - : يا داود ، إن محبتي في خلقي أن يكونوا روحانيين ، وللروحانية علم ، [ ص: 80 ] هو أن لا يغتموا ، وأنا مصباح قلوبهم ، يا داود ، لا تمزج الغم قلبك فينقص ميراث حلاوة الروحانيين ، يا داود ، هممت للخبز أن تأكله وأنت تريدني ، وتزعم أنك منقطع إلي ، تدعي محبتي ، وأنك قد أحببتني ، وأنت تسيء الظن بي ، أما كان لك علم فيما بيني وبينك أن كشفت لك الغطاء عن سبع أرضين حتى أريتك دودة في فيها برة تحت سبع أرضين ، حتى تهتم بالرزق ، يا داود ، أقر لي بالعبودية أمنحك ثواب العبودية وهو محبتي ، يا داود ، تواضع لمن تعلمه ، ولا تتطاول على المريدين ، فلو يعلم أهل محبتي ما قدر المريدين عندي لكانوا للمريدين أرضا يمشون عليها ، وللحسوا أقدامهم ، يا داود ، إذا رأيت لي طالبا فكن له خادما ، واصبر على المؤونة تأتك المعونة ، يا داود ، لأن يخرج على يديك عبد ممن أسكره حب الدنيا حتى تستنقذه من سكرة ما هو فيه سميتك عندي جهبذا ، ومن كان جهبذا لم تكن به فاقة ولا وحشة إلى أحد من خلقي ، يا داود ، من لقيني وهو يحبني أدخلته جنتي " .

أخبرني أبو بكر محمد بن أحمد - في كتابه قبل أن لقيته - وحدثني عنه عثمان بن محمد العثماني ، حدثني أبو عبد الله أحمد بن عبد الله بن ميمون ، قال : سمعت الحارث بن أسد المحاسبي ، يقول : " علامة أهل الصدق من المحبين وغاية أملهم في الدنيا أن تصبر أبدانهم على الدون ، وأن تخلص لهم النيات من فسادها ، ومنهم من يريد في الدنيا شواهد الكرامات عند سرعة الإجابة ، وغاية أملهم في الآخرة أن ينعمهم بنظره إليهم ، فنعيمها الإسفار وكشف الحجاب حتى لا يمارون في رؤيته ، والله ليفعلن ذلك بهم إذا استزارهم إليه " .

وحدثني بعض العلماء ، قال : " أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء عليهم السلام : بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي ، وما يكابد المكابدون في طلب مرضاتي ، فكيف إذا صاروا إلى جواري ، واستزرتهم للمقعد عندي ، أسفرت لهم عن وجهي ، فهنالك فليبشر المصفون للرحمن أعمالهم بالنظر العجيب من الحبيب القريب ، أتراني أنسى لهم عملا ؟ كيف وأنا ذو الفضل العظيم ؟ أجود على المولين عني ، فكيف بالمقبلين علي ؟ وما غضبت على شيء كغضبي على من أخطأ خطيئة ثم استعظمها في جنب عفوي ، ولو [ ص: 81 ] عاجلت أحدا بالعقوبة لعاجلت القانطين من رحمتي ، ولو يراني عبادي كيف أستوهبهم ممن اعتدوا عليهم بالظلم في دار الدنيا ثم أوجبت لمن وهبهم النعيم المقيم لما اتهموا فضلي وكرمي ، ولو لم أشكر عبادي إلا على خوفهم من المقام بين يدي لشكرتهم على ذلك ، ولو يراني عبادي كيف أرفع قصورا تحار فيها الأبصار فيقال : لمن هذه ؟ فأقول : لمن عصاني ولم يقطع رجاء مني ، فأنا الديان الذي لا تحل معصيتي ، ولا حاجة بي إلى هوان من خاف مقامي " .

التالي السابق


الخدمات العلمية